بدأت المقالة السابقة بالحديث عن “البابا كيرلس الثاني”، الـ٦٧ في بطاركة الإسكندرية، وقصة اختياره بعد رفع صلوات كثيرة إلى الله، وسيامته رغمًا عنه، ووصوله إلى “مِصر” حيث أعد له الأراخنة قاربًا ينقُله من “كنيسة الملاك ميخائيل بالروضة”، في موكب سلطانيّ.
وكان عند وصول “البابا كيرلس الثاني” ومن معه، أن احتشد عدد كبير من الأقباط لاستقباله، ثم اتجه إلى القصر السلطانيّ هو ومرافقوه، فخرج إليه مأمون الدولة “عنبر الحَرّانيّ”، مقدمًا له تحيات أمير المؤمنين “المستنصر بالله”، ومبلغا إياه أن الخليفة في انتظاره، ثم اصطحبه بمفرده إلى مجلسه. وعند وصول البابا إلى قصر الخليفة، كانت أم “المستنصر” وأخته لديه في المجلس، وطلبوا من “البابا كيرلس الثاني” أن يبارك قصرهم وملكهم حيث يذكر كاتب السيرة: “ثم أخذه ودخل به وحده إلى مولانا «المستنصر بالله» أمير المؤمنين، وعنده أمه وأخته جالستين، وبين أيديهم طيب كثير. [فضمَخوه (لطَّخوه بكثرة)] من ذٰلك الطيب، وقالوا: بارِك علينا وعلى قصرنا. فبارك عليهم، ودعا لهم ففرِحوا به، وقالوا له: جعلك الله مباركًا علينا وعلى دولتنا. ثم خرج ووقف على باب القاعة، وأمر «بطرس» أسقف «دُقمَيرة» أن يقرأ الدعاء، فقرأه وبارك هو أيضًا ودعا.”. ثم اتجه البابا إلى دار “الأجَلّ الأفضل” أمير الجيوش، فلقيه بحفاوة كبيرة، وأجلسه وأكرمه، فدعا له البابا كثيرًا. وكان والي “مِصر” لدى أمير الجيوش، فأمره أمير الجيوش أن يصحب البابا ويركب معه حتى يصل إلى المكان الذي يريده، وأن يراعيه ويسدد حاجاته طوال وجوده بمصر. وغادر “البابا كيرلس الثاني” دار أمير الجيوش، في إكرام جزيل، واتجه إلى “كنيسة السيدة العذراء بمصر القديمة (“المعلقة”)، وصلى بها. وبعد عدة أيام، صلى بـ”كنيسة السيدة العذراء بحارة الروم”. ومع بَدء “الصوم الكبير”، اتجه إلى “دير أبو مقار بوادي النطرون” لقضاء الصوم كعادة الآباء البطاركة.
وقد ذُكر عن “البابا كيرلس الثاني” أنه كان يقضّي أكثر أوقاته في “كنيسة الملاك ميخائيل بالروضة”؛ وكان يميل أن يعيش في أماكن أكثر هدوءًا من أجل حياة الوَحدة والصلاة، لٰكنه لم يستطِع بسبب مسؤوليات الرعاية، ولأن السلطان كان يستدعيه كثيرًا. كذٰلك كثر الرسل بين “كنيسة مصر وكنيسة الحبشة والنوبة” التابعة لها؛ وقد حدث في السنة الثانية من بطريركية “البابا كيرلس الثاني”، أن “سُلُمون” ملك النوبة ترك المُلك وعزل نفسه عن حكم البلاد، مسلِّمًا إياه لابن أخته “جرجه”، وانفرد هو للعبادة والتنسك، وقيل إنه صار راهبًا بأحد أديرة الصعيد سرًّا. فيذكر لنا كاتب سيرة الأب البطريرك: “مضى «سُلُمون» المذكور إلى وادٍ يُعرف بالقديس «أبو نُفَر» ليتعبد هناك في بِيعة (كنيسة) على اسمه، بينها وبين أطراف «النوبة» مسيرة ثلاثة أيام، وبينها وبين «أُسوان» مسيرة عشَرة أيام.”. وعندما علِم والي “أُسوان” بأمر “سُلُمون” استحضره، ثم أرسله إلى “القاهرة” حيث استقبله الأمراء والمقدَّمون أحسن استقبال، كذٰلك أكرمه “أمير الجيوش”: “وأنزله في دار حسنة، وحمل إليه الكسوة والفرش والآنية.”. وعاش “سلمون” في تلك الدار قرابة العام، ثم تنيح ودُفن في “دير الخندق” المعروف باسم “دير أنبا رويس”. وقد ذكر “المقريزيّ”: “وفيها (في سنة ٤٧٢ ه (١٠٧٩م)) خرج ملك «النوبة» من بلاده، وصار إلى «أسوان»، يريد زيارة كنيسة لهم بها، فبعث والي «قوص» (من) قبض عليه، وحمله إلى «القاهرة»، فأكرمه أمير الجيوش وأفاض عليه النعم، وأتحفه بالهدايا الجليلة. فأدركه أجله ومات قبل أن يعود إلى بلاده.”. أما عن تلك الحِقبة التي قضّاها ملك “النوبة” بـ”مِصر”، فـ … والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ