تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الإمبراطور «قُسطَنطِين» للدولة الرومانية وبنائه مدينة القسطنطينية لتكون العاصمة فى الشرق. وقد أشرنا إلى مرسوم ميلان للتسامح الدينى عام 313م الذى أتاح للمسيحيِّين حرية الاعتقاد، بعد سنوات من الاضطهاد الشديد، وأن فى مِصر ظهرت الحركة الرَّهبانية، وانتشرت منها إلى العالم بأسره كما ظهر الأدب القبطى. وكان لمِصر دور رائد فى المحافظة على الإيمان المسيحى فى مجمع نيقية.
وقد وهب «قسطنطين» لأبنائه الثلاثة وابن عمه درجة قيصر، وحكم كل منهم جزءًا من الإمبراطورية فى أثناء حياته. وبعد موت قُسطَنطِين آل حكم البلاد إلى أبنائه الثلاثة.
– قُسطَنطِين الثانى «337 ـ 340م»
هو الابن الأكبر للملك «قسطنطين» الكبير، وقد بدأ بالحكم كقيصر للغرب خلال حياة والده. وبعد موت أبيه، حكم بالاشتراك مع أخويه «قُسطَنطِيوس الثانى» و«قُسطَنُس» المملكة الرومانية. وقد اتفق الإخوة الثلاثة على التخلص من كل أفراد عائلة «قُسطَنطِين» أبيهم، لئلا يطالبهم أحد بالاشتراك فى الحكم. ولم يتبقَّ إلا اثنان: «جالوس»، وأخوه «جوليان». فحكم «قُسطَنطِين الثانى» بلاد الغال (شَمال إيطاليا وفرنسا وبلجيكا)، وبريطانيا، وهيسبانيا (البرتغال، وإسبانيا، وأندورا، وجبل طارق، وجزءًا من جنوب فرنسا)، فى حين حكم «قُسطَنُس» إيطاليا، وأفريقيا، ومنطقة الإليركوم (حاليًّا شَمال ألبانيا وحتى كرواتيا والبوسنة والهَرسَك). وقد كان «قُسطَنطِين الثانى» هو الوصى على أخيه الأصغر «قُسطَنُس».
إلا أن خلافًا دب سريعًا بين الأخوين «قُسطَنطِين الثانى» و«قُسطَنُس»، إذ بدأ «قسطنطين الثانى» بالشكوى من صغر نصيبه فى المملكة مطالبًا أخاه بالتنازل عن المقاطعات الأفريقية. وقد وافق «قُسطَنُس» على التنازل عن بعض المقاطعات، إلا أن الحال لم يهدأ لخلافهما على المقاطعات. مما أدى إلى تقاتلهما قتالًا شديدًا انتهى بموت «قسطنطين الثانى».
– قُسطَنُس «340 ـ 350م»
كان «قُسطَنُس» أصغر أبناء «قسطنطين» الكبير. تولى حكم البلاد بعد هزيمة أخيه وموته. وفى سنوات حكمه ا أخيرة، قام القائد «مَجِنِينْتِيوس» بثورة ضده معلنًا نفسه إمبراطورًا لفرنسا، وقد تبِعه مؤيدون كثيرون، وبخاصة القوات التى على نهر الراين، وفيما بعدُ على المقاطعات الغربية للإمبراطورية. وقد اختلف المؤرخون: فمنهم من قال إن «قُسطَنُس» حين سمِع بأمر «مَجِنِينتِيوس» تحرك لمقاتلته وقُتل خلال المعارك التى دارت بينهما، والرأى الآخر أنه حين حاول «قُسطَنُس» مواجهة هذه الثورة لم يجد من يسانده، فهرب إلى حياته، إلا أن أتباع «مَجِنِينتِيوس» قتلوه بعد أن قدم ذبائح فى أحد المعابد، وصار مَنيقوس حاكمًا للبلاد.
– «قُسطَنطِيوس الثانى» «337 ـ 361م»
وهو الابن الثانى لقسطنطين الملك، وحكم الإمبراطورية مع أخويه عقب موت أبيهم. وقد حكم المقاطعات الرومانية فى آسيا ومِصر حتى 350م، ثم أصبح الحاكم الأوحد على الإمبراطورية الرومانية بعد مقتل أخويه. فبمجرد سماع «قُسطَنطِيوس الثانى» بما حدث لأخيه حتى أعد الجيوش لملاقاة «مَجِنِينتِيوس» ثأرًا لأخيه وبلاده، حتى تمكن من هزيمته فى معركتين أقدم بعدهما «مَجِنِينتِيوس» على الانتحار لينفرد «قُسطَنطِيوس الثانى» بحكم روما.
وفى 351م، ونظرًا إلى اتساع الإمبراطورية شرقًا وغربًا وصُعوبة إدارتها بمفرده، أشرك «قُسطَنطِيوس» معه فى الحكم ابن عمه «جالُوس» ليصبح قيصرًا، وسلمه المقاطعات الشرقية، أمّا هو، فحكم المقاطعات الغربية، بالإضافة إلى حكم الإمبراطورية كلها. إلا أن «جالُوس» كان فاسد الخلق وسيئ التدبير، مما جعل «قسطنطيوس» يُعدمه بعد ثلاثة أعوام فقط.
وفى تلك الأثناء، تعرضت الإمبراطورية الرومانية للخطر، بسبب اشتداد الهجمات عليها من الغرب والشرق، مما جعل «قُسطَنطِيوس» فى حاجة ماسة إلى من يعاونه، ويسانده فى حكم البلاد، فأشرك معه فى الحكم «جوليان» الأخ الأصغر لجالُوس آخر أفراد عائلة «قُسطَنطِين الكبير» ليصبح قيصرًا. كان «جوليان» مسيحيًّا يعمل بالفلسفة والحكمة وحصَّل العلوم والمعارف والآداب منذ الصغر. وقد جعله «قُسطَنطِيوس» قائدًا للجنود، ودفع به مع قوات الجيش لحماية المقاطعات الغربية من الهجمات عليها. وقد صد «جوليان» الهجمات، وحقق انتصارات عديدة أدت إلى اندلاع غيرة «قُسطَنطِيوس» وحقده عليه فأراد إضعاف قوته.
وقد واتته الفرصة حين تعرضت الإمبراطورية لهجوم ملك فارس «سابُور الثانى» على المقاطعات
الشرقية، فطلب «قُسطَنطِيوس» من «جوليان» إرسال أكثر من نصف قوات الجيش للانضمام إلى القوات الرومانية فى الشرق. إلا أن الجنود لم يرغبوا فى تنفيذ أمر الإمبراطور رافضين الانفصال عن قائدهم، وقاموا بإعلانه «أُغسطسًا» فى باريس. وقد كانت الأحداث ستؤدى إلى حرب أهلية بين الفريقين، ولٰكنها توقفت بموت «قُسطَنطِيوس»، ليصبح «جوليان» قيصرًا على روما.
– جوليان – يوليانوس «361 ـ 363م»
عُرف باسم جوليان المرتد أو جوليان الفيلسوف. انفرد بحكم الدولة الرومانية بعد موت «قُسطَنطِيوس»، ودخل القسطنطينية 361م.
وفى بَدء حكمه، فرِحت رعيته به لتمسكه بالفضيلة وبالعدل بينها. ولما صار إمبراطورًا، أبعد عن ديوانه أهل الفساد والسوء، وقرَّب إليه أهل البلاغة والفلاسفة والحكماء. واشتُهر بأنه واحد من أبرز الفلاسفة والكُتاب اليونانيِّين، فتقرب إليه أهل الفضيلة والعلم والفلسفة من كل مكان.
وقد كان «جوليان» قبْل حكمه مسيحيًّا، إلا أنه بعد الحكم ارتد عنها، وعاد إلى الوثنية. وأدى هذا إلى رفع شأن عبادة الأوثان مرة أخرى، حتى إن أحد الكُتاب ذكر أن ديوانه امتلأ بالمنجمين والعرافين. بل إنه جمع بين أن يكون إمبراطورًا وكاهنًا فى وقت واحد، فصار رئيسًا للوثنيِّين مفتخرًا بذاك المنصب. وقد بالغ فى عداوته للمسيحيِّين، ولكنه لم يعارض ممارسة شعائرها. وقد انصب كل جُهده فى نشر الوثنية وتعميمها فى البلاد، لٰكنه لم ينجح فى هذا. وخلال مدة حكمه، شن الفرس غارات على المقاطعات الرومانية فى الشرق، فجهز جيشًا عظيمًا لمحاربتهم.
وبينما هو متجه إلى قتالهم، مر بمدينة «أنطاكية» وقضَّى بها بعض الوقت. وهناك رأى هيكلًا للأوثان خَرِبًا كما شاهد احتقار الأهالى للوثنية، فغضِب غضبًا شديدًا، واضطهد المسيحيِّين هناك آمرًا جنوده بإيذائهم وقتلهم وسلْب ممتلكاتهم.
ثم دخل البلاد الفارسية، والتقى الجيشان هناك، فهُزم، وتقهقر، ما جعل سابور الثانى (ملك فارس) يسرع إلى ملاحقته. وأظهر «جوليان» بسالة وإقدامًا فى الهجوم على أعدائه، وجُرح فى المعركة جرحًا شديدًا. ولما علِم ملك الفرس بإصابته، شن الهجوم عليه مرة أخرى، واشتبك الفريقان فى معركة حامية الوطيس قُتل فيها «جوليان» وهُزم جيشه. وكانت مدة حكمه سنتين فقط.
وكانت مِصر فى مدة حكمه قد تقوَّى فيها عابدو الأوثان بالإسكندرية، وعادت مدرستهم الفلسفية. وكان «جوليان» يقدس العجل أبيس (معبود المِصريِّين) ويُجِلّه، ويحبه، وظهرت هٰذه المحبة الشديدة فى رسالة أرسلها إلى نائبه فى مِصر بخصوص نفى البابا آثناسيوس (الـعشرين فى بطاركة الإسكندرية) قال فيها: «وحق العجل أبيس، إن لم يخرج هذا البطرك من المدينة عاجلًا، لأضرِبَنّ على عسكرك مائة رطل من الذهب غرامة وعقابًا لهم».
ويُذكر أنه حين أعد العُدة لمحاربة ملك فارس، وصلته رسالة من نائبه فى مِصر يُخبره فيها أن المِصريِّين عثروا على شكل العجل أبيس معبودهم الذى مات، وتحققوا أنه معبودهم، ففرِح فرحًا عظيمًا معتقدًا أن تلك إشارة إلى ما سيحققه من انتصار على عدوه ملك فارس.
– جوفيان- يوبيانوس «363 ـ 364م»
بعد موت «جوليان» فى الحرب، أحاط جيش الفرس بالجنود الرومانية مانعًا وصول أى مُؤَن إليهم. وبعد تشاور القادة معًا، قرروا اختيار إمبراطور عليهم، «ساكوف»، والى البلاد الشرقية، ليكون حاكم البلاد، إلا أنه رفض لشيخوخته، فوقع الاختيار على «جوفيان»، رئيس الحرس الملوكى، وكان ذكيًا، لطيفًا، محبوبًا من الجنود.
ولما استقر به الحكم، حاول إنقاذ الجيوش من ملاحقة الفرس لها. ولم يُنقذهم إلا إرسال ملك الفرس بطلب عقد معاهدة، وإن كانت بشروط لا تتفق وقوانين الإمبراطورية الرومانية، إلا أنه لم يكُن بديلا عنها. وقد ألغى كل الأوامر التى أصدرها «جوليان» فيما يتعلق بعبادة الأصنام واضطهاد المسيحيِّين، فسمَح للمسيحيِّين بإقامة صلواتهم فى الكنائس، وإعادة كل من أُبعد عن وظيفته، وردّ الممتلكات إلى كل من اغتُصبت منه.
وقد أعاد البابا أثناسيوس إلى كرسيّه فى الإسكندرية، وأرسل إليه برسالة يقول فيها: «إلى أثناسيوس، محب الله، الكُلِّىّ الورع، من جوفيان: لمّا كنا نُعجَب كثيرًا بقداسة سيرتكم… وغيرتكم على دين المسيح مخلصنا، شئنا أن نتخذك اليوم تحت حمايتنا، أيها الأسقف الكُلِّىّ الاحترام، وأنت أَهل لذلك… ولهذا ندعوك الآن ونَحُضّك أن تعود وتعلم تعليم الخلاص، فارجع إلى الكنائس المقدسة، وأمّن شعب الله. ونتوخى أن الراعى يصلى من أجلنا، وهو فى مقدمة رعيته. فإننا موقنون أن الله يمنّ علينا وعلى من كانوا مسيحيِّين نظيرنا بنعَمه الخاصة إذا مَنَنتم علينا بغَوث صلواتكم». وبينما الإمبراطور يستعد للذهاب من أنطاكيا إلى القسطنطينية، مات فجأة بلا سبب يُعرف. وقد حكم الإمبراطورية الرومانية عامًا. و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!
الأسقف العام.. رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى