تحدثت مقالة سابقة عن الخليفة العباسيّ “المستظِهر بالله” (٤٨٧-٥١٣هـ) (١٠٩٤-١١١٨م)، الذي حكم الدولة العباسية أربعة وعشرين عامًا امتلأت بالاضطرابات والصراعات والحروب شرقًا وغربًا، وبانتشار دعوة “الباطنية”؛ وهو ما كان له أشد الأثر في سوء الأحوال السياسية والمدنية في أنحاء “الدولة العباسية”. أمّا في “مِصر” تلك الآونة، فقد تُوفي “المستنصِر بالله” بعد أن حكمها قرابة ستين عامًا، وخلفه في الحكم ابنه “أحمد”، وكُنيته “أبو القاسم”، ولُقب بـ”المستعلي بالله”.
“المستعلي بالله” (٤٨٧- ٤٩٥هـ) (١٠٩٤- ١١٠١م)
السادس في خلفاء “مِصر” الفاطميين. بويع بالخلافة بعد موت أبيه “المستنصِر بالله” عام ٤٨٧هـ (١٠٩٤م) وله من العمر عشرون سنة، وكان القائم بشُؤون الدولة آنذاك “الأفضل شاهَنْشاه بن بدر الجماليّ” أمير الجيوش. ويذكر المؤرخون أن “المستنصِر” قد عهِد بالخلافة من بعده إلى أكبر أبنائه “أبي منصور نزار”. لٰكن “المستنصِر”، بعد أن داهمه المرِض، رغِب تولية ابنه “نزار” أمور الحكم، إلا أن “الأفضل شاهَنْشاه” تباطأ في الأمر بسبب كراهة كل منهما للآخر؛ فقد ذكر المؤرخ “ابن التَّغريّ”: “فلما مرِض «المستنصِر» أراد أخذ البَيعة له (لـ«نزار»)، فتقاعد (لم يهتم) «الأفضل شاهَنْشاه» ودافعَ (ماطلَ) «المستنصِرَ» من يوم إلى يوم حتى مات «المستنصِر»؛ وكان ذٰلك كراهةً من «الأفضل» في «نزار» ولد «المستنصِر»؛ وسببه أن «نزارًا» خرج ذات يوم في حياة أبيه «المستنصِر»، فإذا «الأفضل» راكب وقد دخل من أحد أبواب القصر، فصاح به «نزار» المذكور: انزل يا أرمنيّ، يا نجس! فحقَدها عليه (أضمر عداوةً له وتربص للإيقاع به) «الأفضل»؛ وصار كل منهما يكره الآخر.”.
وكان بعد موت “المستنصِر”، أن اجتمع إلى “الأفضل” الأمراء والخواصّ، واتفقوا جميعًا على تولية الأخ الأصغر “أبي القاسم أحمد”، إلا أن “محمود بن مَصّال اللُّكّيّ” الذي كان قد أخذ وعدًا من “نزار” بتولي الوَزارة وأمور الجيوش بدلاً من “الأفضل” لم يوافقهم الرأي. أسرع ا”لأفضل” بتولية “أبا القاسم أحمد” أمور الحكم، بعد أن أخذ له البَيعة من ابني “المستنصِر”: “إسماعيل” و”عبد الله”، ومن رؤساء البلاد وأعيانها.
أمّا “نزار”، فقد خرج إلى “الإسكندرية”، وهناك عرّف واليها “أفتكين” ما حدث ووعده “نزار” بالوَزارة؛ فبايع الوالي وأهل الإسكندرية “نزارًا” ولُقب “المصطفى لدين الله”. واستمرت الأمور هٰكذا عامًا، وقعت فيه معارك بين “نزار” و”الأفضل”. أمّا عن تلك الحروب، فيذكر “شمس الدين يوسُف بن فرغلي: “فتوجه «الأفضل» إلى «الإسكندرية» وضايقها (حاصرها)؛ فخرج إليه «أفتكين» فهزمه. وعاد «الأفضل» إلى «القاهرة» فحشد (قواته)، وعاد إليها (إلى الإسكندرية) ونازلها (قابل أهلها ليقاتلهم)، وافتتحها عَنوة وقتل أعيان أهلها، واعتقل «أفتكين» و«ابن عمار» (قاضي «الإسكندرية»)”. أمّا عن “نزار”، فقد قُبض عليه مع “أفتكين” والي “الإسكندرية”، وأُرسلا إلى “القاهرة” وقُتلا هناك. إلا أن “الهادي بن نزار” خرج مع أتباعه إلى “آسيا الوسطى” وتلقبوا بـ”النزارية”؛ وهٰكذا حدث انشقاق ما بين “مستعلية” و”نزارية”.
وقد شهدت أيام “المستعلي”، إلى جانب الانقسامات بين الأسرة الواحدة على أمور الحكم، زحف الفرنجة للاستيلاء على الشرق؛ وكان ذٰلك عام ٤٩٠هـ (١٠٩٧م)، وكانت “نيقية” (بـ”إسطنبول”) أولى المدن الساحلية التي استولَوا عليها؛ ثم فتحوا حصون الدُّروب حتى وصلوا إلى مدينة “كَفَرْطاب” السورية. وفي عام ٤٩١هـ (١٠٩٨م)، وصل الفرنجة إلى عدد من البلاد؛ ويذكر المؤرخون أنهم قتلوا وسبَوا آلافًا؛ ثم حاربوا “أنطاكية” وتمكنوا من فتحها، ثم بلدة “المَعَرّة”؛ فاجتمع حكام “الشام” للتصدي لخطر الفرنجة. ويذكر بعض المؤرخين أن “مِصر” لم تشترك في تلك الحرب، ويُرجع ذٰلك بعضهم – ومنهم “ابن الأثير” – إلى أسباب الصراع بين “العلويين” و”الدولة السَِّلْچُوقية” التي تمكنت من الاستيلاء على بلاد “الشام”. وقد كان التفكك بين الحكام والأمراء هو الدافع الأول والمعزز للفرنجة في حربهم! فسار الفرنجة سالكين الساحل حتى وصلوا إلى “بيت المقدس”، حيث دارت معركة شديدة الوطأة انتهت بإسقاط الفرنجة لـ”بيت المقدس”. وكما ذُكر سابقًَا، فإن العباسيين لم يتمكنوا من صد العُدوان أو إعلان الحرب لاستعادة ما فُقد منهم؛ نتيجة الفتنة الكبرى بين أمراء السلاچقة. أمّا في “مِصر”، … والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ