تحدثت المقالة السابقة عن “الآمِر بأحكام الله” (٤٩٥-٥٢٤هـ) (١١٠١-١١٣٠م)، الذي اغتيل سنة ٥٢٤هـ (١١٣٠م). أما الكنيسة القبطية في ذٰلك الوقت، فكان يرأسها “البابا ميخائيل الثاني” (١٠٩٢- ١١٠٢م)، الذي جلس على كرسيّ مار مرقس الرسول أيام كل من “المستنصر بالله” و”المستعلي بالله”، وأوائل حكم “الآمر بأحكام الله”. وفي سنة ١١٠٢م، أصيب الأب البطريرك بـ”الطاعون”، وتُوفي، ليخلُفه “البابا مقارة الثاني”.
البابا مقارة الثاني (١١٠٢م–١١٢٨م)
التاسع والستون في بطاركة الإسكندرية؛ جلس على كرسيّ البطريركية أيام حكم “الآمر بأحكام بالله” الفاطميّ، ووَزارة “الأفضل” ابن أمير الجيوش. فكان بعد نياحة “البابا ميخائيل الثاني”، أن اجتمع الأساقفة والأراخنة بـ”مِصر” و”الإسكندرية” والصعيد، هم ورهبان دير “أنبا مقاريوس”؛ لاختيار الأب البطريرك خليفة “مار مرقس الرسول”، وكان ذٰلك في “عيد الصليب” (الذي يُحتفل به كل عام في السابع عشَر من توت – السابع والعشرين من سبتمبر)، بـ”دير القديس مقاريوس” ببرية شيهيت، حيث مكثوا أيامًا كثيرة في الصلوات وتدارُس في من يصلح لتلك الرتبة الجليلة. وبعد أيام كثيرة، رشح المجتمعون اثنين: “مقارة القَس” بدير أبو مقار المعروف بـ”المصور”، والشماس “يونُس بن سنهوت”، لٰكنهم لم يتفقوا على أيّ منهما؛ فكتبوا إلى أراخنة “مِصر” يطلبون رأيهم في من يختارونه، فوقع اختيارهم على “مقارة القَس”؛ وأرسلوا إلى الآباء الأساقفة والكهنة بالدير يردون عليهم جوابًا؛ فاتفق رأي الجميع على اختيار الراهب “مقارة القَس”. وذهب الأساقفة والكهنة والرهبان إلى حيث “مقارة”، وأمسكوه، وأتَوا به إلى مجمعهم، وأخبروه باختياره بطريركًا؛ فامتنع واستحلفهم أن يعفوه من تلك المسؤولية، متعللاً بأنه لا يصلح لها؛ ويذكر أنبا “ساويرس ابن المقفع”: “فلم يلتفتوا إلى قوله، وقيدوه، وألبسوه الثوب، ووسموه … وساروا إلى «مِصر».”.
وعند وصولهم إلى “مِصر”، ذهب “أبو الفضل ابن الأسقف” إلى الوزير “الأجل الأفضل”، وكان يعمل كاتبًا لدى “الأجل الأفضل” ومتوليًا لإدارة كثير من الدوواين، وأعلمه بوصول الأب البطريرك، وطلب إليه أن يرفع عنه الرسوم التي يفرضها والي “الإسكندرية” على من يُرسم للبطريركية، ذاكرًا أن “مقارة” راهب لا يملك شيئًا، عاش حياته دون أن يقتني دينارُا أو درهمًا؛ ثم سأل “أبو الفضل” الوزير “الأجل الأفضل” أن يُحضر الأب البطريرك ليشجعه ويقويه كما جرت العادة؛ فأجابه “الأجل الأفضل” إلى سؤاله، واستحضر الأب البطريرك لديه بإكرام وتبجيل. ويُذكر أن البابا “مقارة الثاني” حين دخل إلى دار “الأجل الأفضل”: “دعا له دعاءً كثيرًا، فرآه (الأجل الأفضل) وديعًا، عفيفًا، حسَن الوجه، جيد الكلام؛ ورزقه الله منه حظًّا وقَبولاً، فأدناه وأجلسه وأكرمه إكرامًا كثيرًا، وخاطبه خطابًا جميلًا، وأمر أن يُكتب له منشور منه إلى والي «الإسكندرية»، وغيره من الولاة الذين يعبُر عليهم (البابا مقارة) في طريقه، (منشور) بإعزازه وإكرامه وإعفائه من طلب رسم ولا غيره، ومساعدته ومعاضدته في جميع ما يحتاج إليه.”.
ويذكر مؤرخو التاريخ الكنسيّ أن كهنة “الإسكندرية” حاولوا أن يُلزموا الراهب “مقارة القَس”، قبل سيامته بطريركًا، بتوقيع تعهد بدفع مبالغ باهظة لهم سنويًّا، إلا أن ذٰلك الأب؛ إذ لم يكُن راغبًا في منصب البطريركية ويتوق إلى العودة لديره ووَحدته، لم يوافقهم، وقال لهم: “أنا رجل راهب. ما لي شيء. ولا أكتُب خطي بشيء (لا يملك ما يكتب به). ومهما قدرتُ عليه دفعته لهم في كل سنة. فإن رضيتم على هٰذه القضية، وإلا اتركوني أرجِع إلى حيث كنت! فهو أصلح لي وأحب إلى قلبي مما دعوتموني إليه.”. وعندما ضايقوه، هرب منهم واختبأ بأحد الأديرة، لٰكنهم لم يجدوا من هو أصلح منه لتولي ذٰلك المنصب؛ فأحضروه رغمًا عنه ورسموه بطريركًا، وكان ذٰلك في سنة ١١٠٢م. و… والحديث في “مصر عن الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ