تحدثت مقالة سابقة عن “البابا مقارة الثاني” (الـ٦٩ في بطاركة الإسكندرية)، الذي عاصر حكم “الآمِر بأحكام الله”، والذي شهِدت أيامه عددًا من الأمور منها: بعض الظواهر الطبيعية التي جعلت الناس يظنون أن القيامة قد حضرت، ووقوع زلزلة عظيمة بـ”مِصر” وتهدُّم “كنيسة ميكاييل (ميخائيل) بجزيرة “الروضة” مقر البطريركية آنذاك، ووصول حملة “الفَِرَِنجة” إلى “الفرَما”، وقتل الوزير “الأفضل بن بدر الجماليّ”. وقد تنيح البابا “مقارة الثاني” سنة ١١٢٨م، وظل الكرسيّ المَرقسي من بعده شاغرًا قرابة العامين.
أما أحوال الدولة العباسية في ذٰلك الزمان، فقد سبق الحديث عن الخليفة “المستظهر بالله” الذي حكم ما يزيد على عَقدين من الزمان، حيث جرت كثير من الأحداث والاضطرابات: شرقًا في صراعات بين أمراء “الدولة السَِّلْچُوقية” وسلاطينها، وغربًا في حروب مع الفَِرَِنجة؛ فامتلأت أيام حكم “المستظهر بالله” بقلاقل ومحاربات، ثم خلفه ابنه “المسترشد بالله”.
الخليفة العباسي “المسترشد بالله” (٥١٢-٥٢٩هـ) (١١١٨-١١٣٥م)
“أبو منصور الفضل”، ابن “المستظهر بالله”، التاسع والعشرون في خلفاء الدولة العباسية. درس على يد معلمه الخاص الشيخ “أبي البركات أحمد بن عبد الوهاب السيبي”، ويُذكر فيه أنه كان ذا خط بديع، ونثر صنيع، ونظم جيد للشعر العربيّ، متسمًا بالفطنة والذكاء. وفي سنة ٥١٢هـ (١١١٨م)، تُوفي والده الخليفة “المستظهر بالله” بعد أن عهِد بالخلافة من بعده له؛ فبايعه بالخلافة إخوته وأقرباؤه وكبار رجال الدولة.
وفي أيام حكم “المسترشد”، ظل النزاع بين أفراد الدولة السَِّلْچُوقية على أشده، فتنازع “سَنْچَر بن مَلِكشاه” وابن أخيه “محمود”، في معارك شديدة، إلى أن آل سلطان “العراق” إلى “سَنْچَر”. وفي تلك الصراعات، حاول الخليفة العباسيّ “المسترشد بالله” أن يستغلها لمصلحته، في محاولة لاسترداد نفوذ الخلفاء العباسيِّين؛ فألَّف جيشًا كبيرًا قادرًا على الدفاع عن العباسيِّين؛ وفي ذٰلك يذكر أ. “حسن خليفة”: “وشمَّر عن ساعِد الجِدّ، وخرج بنفسه لتأديب العصاة والثائرين، وتغلب بفضل إقدامه وشجاعته على أكبر الثوار في «العراق» … ولما قويَ نفوذ الخليفة، عمِل على الخلاص من السَِّلْچُوقيين”؛ فجرت مناوشات بين العباسيِّين بقيادة الخليفة “المسترشد بالله”، وبين السَِّلْچُوقيين بقيادة السلطان “محمود”، انتهت بالتصالح. وفي عام ٥٢٥هـ (١١٣١م)، مات السلطان “محمود”، وخلفه السلطان “مسعود بن مُحمد بن مَلِكشاه”، وقامت بينه بين الزعيم السابق “سَنْچَر” حروب كثيرة انتهت بتغلبه على “سَنْچَر”. وفي ظل تلك الحروب والاقتتال بين السَِّلْچُوقيين، استرد “المسترشد بالله” ما له من نفوذ؛ وأخيرًا لم تستقِم الأمور بينه وبين السلطان “مسعود”؛ فخرج لقتاله، إلا أن الخليفة “المسترشد بالله” هُزم؛ فيُذكر أنه: “خرج لقتال «مسعود»، ولٰكنه غُلب على أمره، وأسره «مسعود» وجعله في خيمة، ووكل به من يحفظه، وقام بما يجب من خدمته. إلأ أنه قُتل، وهو بالخيمة، ويقال أن أحد «الباطِنية» (يعتقدون في معاني باطنية للشريعة) هجم عليه ليلاً وقتله.”؛ وكان ذٰلك في سنة ٥٢٩هـ (١١٣٥م)؛ وتولى الخلافة من بعده ابنه “الراشد بالله”.
الخليفة “الراشد بالله” (٥٢٩-٥٣٠هـ) (١١٣٥-١١٣٦م)
“أبو جعفر المنصور”، ابن “المسترشد بالله”، ولُقب “الراشد بالله”، وهو الثلاثون في خلفاء الدولة العباسية. تولى الخلافة من بعد أبيه المقتول، وحاول الثأر له؛ فاتفق هو وعدد من الأمراء، وخلع “مسعود” عن سلطنته، إلا أن السلطان السَِّلْچُوقيّ “مسعود” قَدِم إلى “بغداد” وحاصرها، وتمكن من دخولها، فهرب الخليفة “الراشد” إلى “الموصل” بعد تفرق أصحابه عنه. وقد جمع “مسعود” القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التي حلفها “الراشد” له فحكموا بخلعه عن الخلافة. واختار السلطان “مسعود” عمَّ “الراشد” خليفةً بديلاً عنه، و… والحديث في “مصر عن الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ