أهنئكم جميعًا بـ”عيد الميلاد”، الذي يحتفل به مَسيحيو الشرق والكنيسة الأرمينية والكنيسة الروسية، و”الكنيسة القبطية الأرثوذكسية” في التاسع والعشرين من كيهك وَفقًا للتقويم القبطيّ (السابع من يناير بحسب التقويم الميلاديّ). نصلي إلى الله أن يعم بسلامه على “مصر”، ويرفع الوباء والألم عن العالم في هذه الأيام المباركة.
لا شك أن يوم الميلاد حدثًا عظيمًا فارقًا في تاريخ الإنسانية، حتى إن تأريخ الأحداث صار يشار إليه منتسبًا إليه: قبل الميلاد، وبعد الميلاد.
وحين نتأمل حالة البشرية قبل الميلاد، فإننا نجدها بشرية غارقة في الظلمة والشر والخطية. فقد كان العالم قديمًا ينقسم إلى أمم صنعت من الطبيعة أو الحيوانات أو الأصنام آلهةً لها؛ فآل ذٰلك إلى انجراف البشر بعيدًا عن الله ـ الإلٰه الحقيقي؛ ومن ثَم انغماسهم في شرور ملذات وشهوات، وتوارى العدل وفُقدت المحبة تمامًا.
أما القسم الآخر، فكان الشعب اليهوديّ الذي أعلن الله له ذاته عن طريق “إبراهيم” أبي الأنبياء، ليصير له شعبًا ويُعلِن الله الحقيقيّ للأمم؛ إلا أنهم ضلوا وفسَدوا وأهانوا وقتلوا الأنبياء، رافضين أن يتبعوا وصايا الله؛ فتوقفت النبوة وعاش الشعب في ظلمة روحية. لٰكن لم تخلُ تلك الفترة من نور نفوس صادقة ظلت أمينة في عَلاقتها بالله: أول الكل”السيدة العذراء”، تلك الفتاة البسيطة المتواضعة التي استحقت أن تصير أمًّا للسيد المسيح، ثم “زكريا الكاهن” وزوجته “أليصابات” اللذان كانا بارَّين أمام الله واستحقّا أن يُرزقا بـ”يوحنا المَعمَدان” النبيّ الذي أعد الطريق أمام السيد المسيح، و”يوسُف النجار” الملقَّب بالبار الموكل إليه من اللهبرعاية العائلة المقدسة، و”سمعان الشيخ”، و”حَنّة النبية”، والرعاة الساهرون على رعاية خرافهم، وغيرهم. أمّا في العالم، فكان من يزال يبحث عن إعلانات الله الحقيقية بشأن ذاته والملك المولود، ومنهم: مجوس المشرق، تلك الأنفس التي عاشت منتظرة مراحم الله وتعطفاته على البشرية الخاطئة.
وهٰكذا جاء الميلاد رسالة حب من الله إلىالبشرية بأسرها،راغبًا ـ تبارك اسمه ـ أن يُعلن لهم محبته ومراحمه، حتى قيل: “ﭐلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ﭐلنَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ ﭐلْحَقِّ يُقْبِلُونَ.”؛ فأعلنت السماء “ميلاد السيد المسيح” إلى الكل، كلٍّ بحسب طبيعته: فـ”السيدة العذراء” بشَّرها الملاك بالميلاد الفائق المعجزيّ، و”سمعان الشيخ” أُعلن له أنه لن يرى الموت حتى تحقيق نبوءات الميلاد، وأعلنت الملائكة البشارة “للرعاة”،في حينأعلن الميلاد “للمجوس” بالنَّجم العجيب الذين قادهم إلى وليد المذود. ومن محبة الله العجيبة نحوالكل، أنه أعلن الميلاد حتى للأشرار الذين يرفضون قَبوله، مثل: “هيرودُس” الملك الذي رغِب معرفة أين وُلد الصبيّ الملك كي يتخلص منه وقتل جميع أطفال “بيت لحم” الذكور؛وأعلن الميلاد “للكتبة والفَرِّيسيين” وكل”أورُشليم” إذ قيل إن المدينة اضطربت بحضور المجوس إلى مولود المذود. ومع أن مدينة “أورُشليم” اهتزت،فإن قلوب الكتبة والفريسيين ورؤساء اليهود لم تهتز!! وهٰكذا جاء الميلاد رسالة حب إلٰهيّإلى كل البشر: الفقراء، المرفوضين، الأمناء، الملوك، رجال الدين؛ فلا عجب أن يكون إكليل عيد الميلاد الذي يُستخدم في زينتههو دائرة تمثل محبة الله التي لا تنتهي.
وفي “ليلة الميلاد”، وُلد من عرَّفنا بالله، من وُصف في تقرير رفعه الحاكم الرومانيّ “بيليوس لنثيوس” إلى الإمبراطور “طيباريوس قيصر”، قائلاً: “إنه يوجد، أيها القيصر، في عصرنا هٰذا، رجل اسمه «يسوع»، يسير على مقتضى الفضيلة العظمى … والحق إننا نسمع، يا مولاي، عن «يسوع» هٰذا أمورًا عجيبة؛ فإنه يقيم الموتى ويشفي المرضى بكلمة واحدة!!! وهو إنسان معتدل القامة، جميل الصورة، ذو هيبة كاملة البهاء، حتى لَيُضطر من ينظر إليه أن يحبه ويخافه … وعيناه تشعان كالشمس فلا يمكن لإنسان أن يحدق فيهما. وإذا عنَّف أرهب! وإذا وعظ أبكى! وهو يبدو فرِحًا، وإن كانوا يقولون أنهم ما رأَوه ضاحكًا قط! …. والحق إن الناس ما سمِعوا قط مثل ما سمِعوا من «يسوع» هٰذا … في حين أنني أسمع أنه ما أساء إلى أحد قطّ، بل على العكس يقول أولٰئك الذين عرَفوه واختبروه أنهم حصلوا منه على نعمة عظيمة وصحة كاملة …”.
وقد قدم لنا “السيد المسيح” في تعاليمه محبة الله إلينا، وأوضح أن أعظم الوصايا وأكملها هي محبة الله من كل القلب وكل الفكر وكل القدرة، ومحبة القريب كالنفس؛ فـ“اَلْمَحَبَّةُ لَا تَسْقُطُ أَبَدًا”.ختامًا، أتذكر كلماتالمؤرخ الفيلسوف المعاصر“William Durant”صاحب كتاب “فلسفة الحضارة وسلسلة تاريخ الحضارة”، عندما سئل: “ماذا كانت قمة التاريخ؟” فأجاب: “السنوات الثلاثة التي مشى فيها «يسوع الناصريّ» على الأرض.”.
كل عام وجميعنا بخير. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ