اليوم تُطل الذكرى الحادية والخمسون على رحيل القديس “البابا كيرلس السادس”، الـ116 في بطاركة الإسكندرية، الذي اعتلى كرسيّ “مار مرقس الرسول” من 10/5/1959م حتى نياحته في 9/3/1971م، والذي أعلنت “الكنيسة القبطية الأرثوذكسية” قداسته في يونيو 2013م.
أطلق عدد من الألقاب على القديس “البابا كيرلس السادس”، مثل “رجل الصلاة” و “صديق الطلبة”، و “الوطني”، كما اتسم بعدد من الصفات التي تندر أن توجد جميعها في رجل واحد، وعلى سبيل المثال: “الأمانة والصدق”، “الشهادة للحق”، “الوطنية”، “الشجاعة”، “العطاء”. واليوم أود أن أتحدث عن محبته التي برزت في كل مرحلة من حياته.
المحبة لله
أحب “عازر يوسف عطا” الله منذ نعومة أظفاره؛ فكانت له محبة شديدة للقساوسة وخاصة الرهبان، حتى إنه كان يأنس بهم ويظل ملازمًا لهم إلى أن يغلبه النعاس!! فيذكر أ. “حنا يوسف عطا”، شقيقه الأكبر، أن منزل أسرته كان محطًا لكثيرين خاصة الآباء الرهبان، وكان من بين المترددين راهب شيخ،تقدم في أيامه حتى كلت عيناه، يُدعى “القمص تادرس البَرَموسي”، وكان “عازر” وهو ما يزال في الرابعة من عمره يأنس به، ويكِن له محبة كبيرة. وليلة ما، نام “عازر” على ركبتي “القمص تادرس البرموسي”؛ فأسرعت والدته تعتذر للأب الراهب، وتحمل الطفل عنه، فما كان من الراهب إلا أن قال: “دعيه؛ لأنه من نصيبنا”! ومع مرور الأيام والسنين، ازدادت محبة “عازر” لله؛ فكان يقضّي معظم أوقاته بالكنيسة، مواظبًا على حضور القداسات والصلوات. أما غرفته الخاصة بالمنزل، فقد صارت مكانًا للقاء الله: فامتلأت بالصلوات، والتسابيح، وقراءة الكتب المقدسة؛ حتى قرر ترك مركزه الممتاز بشركة “كوكس شيبنج للملاحة”، بل العالم بأسره؛ من أجل التعبد لله بالصلوات والأصوام والخدمة، في حياة رهبانية ملائكية بـ”دير البرموس”، باسم الراهب “مينا البرموسي”، مفضلاً حياة البر والقداسة والسعادة الحقيقية.
لم تتوقف محبة “أبونا مينا البرموسي” لله عند ذلك الحد، بل سعى إلى حياة التعبد والوحدة، على الرغم من تحذيرات الكل إليه من أخطار هذه الحياة الشاقة؛فتوحد بمغارة تبعد عن الدير ساعةً سيرًا على الأقدام؛فصارت تلك المغارة سماءً بالصلوات والتسابيح وتمجيد اسم الله. ثم توحد بطاحونة قديمة بـ”مصر القديمة”؛ فعُرف بـ”أبونامينا المتوحد”، وحين ذاعت شهرته بين الناس وقصدوه طلبًا للبركة والصلوات، حدد مواعيد محددة لمقابلة زائريه، وفي غير تلك المواعيد لم يكُن يقابل أحدًا؛ وأثمر عن ذٰلك تنظيم قداسات يومية لنوال البركة.
وبعد أن اختير “أبونا مينا المتوحد” للبطريركية، لم يحِد عن طريق النسك والحياة الرهبانية، فاستمر في ارتداء الملابس الخشنة (وشاله الذي عُرف به)، وظل مأكله قليلاً بسيطًا. كذٰلك حرص على إقامة الصلوات التي كان يرفعها يوميًّا صباحًا ومساءً في القداس والعشية، حتى قال عنها مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث: “أمضى حوالي أربعين عامًا في خدمة الكهنوت، وفي خلال تلك الفترة، حرص في كل يوم أن يقيم القداس الإلٰهي. لقد كان يحلو له أن يصلي جميع الصلوات، ويترنم بألحان التسبحة، ويصلي المزامير، ولا يوجد في تاريخ الكنيسة كله إنسان مثل «البابا كيرلس» استطاع أن يقيم مثل كل هذه القداسات. ولقد حاولت أن أحصي عدد القداسات التي أقامها في حياته، فوجدت أنه قد صلى ما يزيد على 12 ألف قداس … وهذا أمر لم يحدث في تاريخ أيّ بابا من بابوات الإسكندرية، أو العالم، أو الرهبان.” !! نعم، إنه الحب الذي فضل أن يحيا لله، لا لذاته. و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ