تحدثت مقالة سابقة عن الخليفة “الفائز بنصر الله”(549-555هـ) (1154-1160م)، عاشرالخلفاء الفاطميِّين بـ”مصر”، المتولي وهو لم يتجاوز الخامسة، بعد مقتل أبيه “الظافر”، الذي لحداثته لم يكُن حاكمًا فعليًّا، بل آلت أمور الحكم الحقيقيّ إلى الوزير “عباس” حتى قُتل ثأرًا لموت “الظافر”؛ وصار “طلائع بن رُزِّيك” هو حاكم “مِصر” وتلقب بـ”الملك الصالح”.
اهتم “الصالح” بجمع الأموال وقتل كبار رجال الدولة للتخلص من منافسيه؛ فاستبد بالحكم وجعل لولاية الأمراء أسعارًا، ولا تزيد مدة الولاية عن ستة أشهر؛ ما تسبب في أضرار كبيرة للرعية. كذٰلك فرض سلطانه على القصر حتى سبّب كثيرًا من المتاعب للناس. وقد سعت عمة “الفائز” الذي كان في كفالتها إلى قتل “الصالح”، لٰكن محاولتها باءت بالفشل، بل إن “الصالح” قتلها وأودع كفالة “الفائز” إلى عمته الصغرى.
ويذكر بعض المؤرخين أن “الصالح” كان يجالس الأدباء ليالي كثيرة، وأنه قرض الشعر، لكن قيل إن كثيرًا منه كان عن شاعر يصحبه يُسمى “ابن الزبير” الملقب بـ”القاضي المهذب”، ومنه:
كَمْ ذَا يُرِينَا الدَّهْرُ مِنْ أَحْدَاثِـهِ عِبَرًا وَفِينَا الصَّدُّ وَالْإِعْرَاضُ
نَنْسَى الْمَمَاتَ وَلَيْسَ نُجْرِي ذِكْرَهُ فِينَا فَتُذْكِرُنَابِهِ الْأَمْرَاضُ
ومن الأحداث في أيام الخليفة “الفائز”، وقوع زلازل عظيمة بأغلب بلاد “الشام” أهلكت كثيرين؛ فيذكر “ابن تَغْريّ”: “كانت زلازل عظيمة بـ«الشام» و«حلب» و«حَماة» و«شَيْزَر» وغالب بلاد «الشام» والشرق، وهلك خلق كثير. حُكي أن معلمًا كان بـ«حماة» في كُتّاب، فقام من المكتب يقضي حاجة، ثم عاد وقد وقع المكتب على الصبيان فماتوا بأَسرهم!! والعجب أنه لم يأتِ أحد يسأل عن صبيّ منهم، بل جميع آبائهم ماتوا أيضًا تحت الهدم في دُورهم!! ووقعت أبراج «قلعة حلب» وغيرها، وهلك جميع من في «شَيْزَر» إلا امرأة واحدة وخادمًا. وساخت (غاصت في الأرض)«قلعة فامِيَة»، وانشق «تل حَرّان» نصفين، وظهر فيه بيوت وعمائر قديمة. وانشق في «اللاذقية» موضع ظهر فيه صنم قائم في الماء، وخرِبت «صيداء» و«بيروت» و«طرابلس» و«عكّا» و«صُور» وجميع قلاع الفرنج.”، وكان ذٰلك عام 552هـ (1157م). كذٰلك تعرضت “بغداد” للغرق عام 554هـ (1159م)؛ فيذكر “ابن الأثير” أن المد أقبل إلى البلد، وامتلأت الصحاريوخندق البلد بمياه فهدَّمت السور وأغرقت أماكن كثيرة في “بغداد”، وأسقطت مباني كثيرة ومحالّ وبعض المقابر، فكان خراب البلاد عظيمًا. وفي العام نفسه، الذي تُوفي فيه “الفائز”، تُوفي الخليفة العباسيّ “المقتفي بالله” وتولى من بعده “المستنجد بالله”. وظل “الصالح” ممسكًا بأمور الحكم حتى تُوفي الخليفة “الفائز” عام 555هـ (1160م)، بعد أن قضّى في الحكم قرابة ست سنوات وبضعة أشهر، ومن بعده تولى “العاضد بالله” ابن عمه.
“العاضد بالله” (555- 567هـ) (1160 – 1172م)
هو “أبو مُحمد عبد الله بن يوسُف بن الحافظ”، لُقب”العاضد بالله”، وهو الحادي عشَر في الخلفاء الفاطميِّين بـ”مِصر” وآخرهم. تولى بعد موت ابن عمه “الفائز بنصر الله”، وكان آنذاك أحد عشَر عامًا وبضعة أشهر. قُتل أبوه “يوسف بن الحافظ” بيد الوزير “عباس” بعد قتل “الظافر”. تولى الخلافة وكان ما يزال “الملك الصالح” قابضًا على أمور الحكم متحكمًا في قصر الخليفة منذ أيام “الفائز”. إلا أن عمة “الفائز” الصغرى مع أصحاب أختها (التي قُتلت بأمر “الصالح”) دبرن أمر قتل “الصالح”، ونجحن في أمرهن فمات؛ فتولى بعد ذٰلك أمر الوزارة ابنه “رُزِّيك” وأقام فيها سنة وبضع أشهر؛ وقد قيل فيه: “فما رأى الناس أحسن من أيامه، وسامح الناس بما عليهم من الأموال، والبواقي الثابتة في الدواوين.”. و… والحديث عن “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ