أتقدم بخالص العزاء إلى المِصريِّين جميعًا، في استشهاد القمص “أرسانيوس وديد” قبل أيام قليلة، واثقين أنه انضم إلى صفوف الشهداء الذينفي أعلى منزلة عند الله، ومصلين إلى الله أن يحفظ “مِصر” من كل شر.
إن الاستشهاد هو شهادة الإنسان للإيمان الذي يدين به،وقُصد به اصطلاحيًا أن يُقتل في سبيل الله. وفي “المَسيحية”، نطلق لقب الشهداء على كل من احتملوا الشدائد بسبب الإيمان قُتلوا أو لم يُقتلوا. واليوم، نطلقها على كل من قبِل أن يقدم حياته كذبيحة حب إلى الله لأجل إيمانه؛ فقُتل على الهُوية الدينية. واللافت للانتباه بشدة في تاريخ “المَسيحية” الممتد ألفي سنة ويزيد، أن الاستشهادكان أمرًا مثاراندهاش العالم كله؛ إذ يرى الشهداء وهم يلاقون الموت بشجاعة دون رهبة أو خوف، بليتقبلونه بشوقوفرح يذهلان معذبيهم ومضطهديهم،وكأنهم على موعد لطالما انتظروه وتاقوا إليه!!!
والاستشهاد في “المسيحية” بدأ مع ميلاد السيد المسيح وقتل أطفال “بيت لحم”، ثم عرفته”مِصر” عند زيارة “العائلة المقدسة”حين استُشهد عدد من المصريين كالشهيد “وَدامُون الأرمَنتيّ”. وقد استُشهد تلاميذ السيد المسيح عدا “يوحنا الإنجيليّ”. وبدأت موجات كثيرة من الاضطهادات حيث روى الشهداء بدمائهم بذرة الإيمان؛ وكان لـ”مصر” النصيب الأعظم في عدد الشهداءحتى قيل: “لو وُضع شهداء العالم كله في كِفة وشهداء «الكنيسة القبطية» في كِفة أخرى، لرجحت كِفة شهداء «الكنيسة القبطية».”. ولا تزال “الكنيسة القبطية” تقدم شهداء في عصرها الحديث، منهم ـ على سبيل المثال لا الحصر: الشهيد “القَس رويس زاخر” من أبو تيج، و”القَس مينا عبود” و”القَس رافائيل موسى” شهيدي العريش، والشهيد “القَمص سمعان شحاتة” من بني سويف، والشهيد “القمص أرسانيوس وديد” من الإسكندرية، و”شهداء ليبيا”، وشهداء حادثتي طريق “دير أنبا صموئيل المعترف”، وشهداء “الكنيسة البطرسية” و”كنيسة مار جرجس بطنطا” و”كنيسة القديسين بالإسكندرية”، وكثيرين آخرين.
وحين نلقي نظرة سريعة على حياة الشهداء، نراها متكللة بفضائل عديدة، منها: شجاعة متناهية لا تهاب الموت، واحتمال أتعاب وآلام وضيقات أدهش الوُلاة والحكام والمضطهدين،وثبات وصبر وقوة لا تخور تحتوطأة الألم،مع وداعة عجيبة لاتتمرد ولاتشاغب ولا تنتقم لنفسها!! وتُعد كلمات “الكتيبة الطِّيبية” المستشهد أفرادها جميعًا مثالاًناصعًا؛ فقد كتبوا رسالة إلى الإمبراطور الرومانيّ، فيها: “أيها القيصر العظيم، إننا جنودك، لٰكننا في الوقت نفسه عبيد الله … لسنا ثوارًا، فالأسلحة لدينا، وبها نستطيع أن ندافع عن أنفسنا ونعصاك، لٰكننا نفضل أن نموت أبرياء عن أن نعيش ملوَّثين!! ونحن على أتم الاستعداد أن نتحمل كل ما تصبه علينا من أنواع التعذيب!!! لأننا مَسيحيون، ونُعلن مَسيحيتنا جِهارًا …”.
أما عن حق الشهداء، فنثق أنه لن يضيع أبدًا.فإن “قايِين”حين قام على أخيه”هابيل” وقتله،جاءه جزاء فعلته الشنعاء من الله “فقال: «ماذا فعلتَ؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض.فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عمِلتَ الأرض لا تعود تُعطيك قوتها. تائهًا وهاربًا تكون في الأرض».”. ويذكر لنا “القديس يوحنا الإنجيليّ” في رؤياه أن الله سوف يقضي للشهداء من قاتليهم: “ولما فَتَحَ الخَتم الخامس، رأيتُتحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشَّهادة التي كانت عندهم،وصرخوا بصوت عظيم قائلين:«حتى متى أيها السيد القدوس والحق، لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟» فأُعطُوا كلُّ واحد ثيابًا بِيضًا، وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يَكمَل العبيد رفقاؤهم، وإخوتهمأيضًا، العتيدون أن يُقتلوا مثلهم”. إن أناة الله الطويلة جدًّا على الأشرار ما هي إلا فرصة يمنحهاـ تبارك اسمه ـ من أجل مراحمه الكثيرة التي تُعد ولا تُحصى على الكل، فرصة اختبار لثقة من يؤمنون به، وفرصة للخطاة والمخطئين للتوبة والندم على الشر، وفرصة للبشر أن يسلكوا بالعدل فيما بينهم جميعًا. ولٰكن، حتمًا يأتي الوقت الذي يحكم فيه الله لكل من ظُلم أو اضطُهد أو قُتل من أجل البر والإيمان.وحقًّا ما أصعب وقت تلك الدينونة العتيدة أن تكون؛ إذ “مخيف هو الوقوع في يدي الله الحيّ!”.
إن “مِصر” بلد واحد،ذو قلب واحد، ينبض بنبض كل مِصرييعيش على أرضها أو في أي بقعة من العالم؛ فقد تعلمنا منذ نعومة أظفارنا أن بلادنا تعيش في قلوبنا، نحملها أينما ذهبنا، عاملين من أجل رفعتها وسلامها؛لذٰلك كلنايُعوزنا:
- إدراك معنى التنوع المجتمعيوقَبوله؛بفَهمناالآخرالذي يعيش في مجتمعنا وبتفهمنا إياه.
- تأكيدقيم التعايش المشترك ومبادئه ومعاملاتهوالمساواة بين جميع المواطنين، دون وضع عدد من أبناء الوطن في مكانة أقل، أو حرمانهم من حقوقهم أو واجباتهم أو حياتهم لمجرد الاختلاف في الجنس أو العرق أو الدين.
- غرس “الاحترام والتقدير”نحوكل ابن من أبناء الوطن؛ إذ هما من أهم قواعد التعايش بين أفراد المجتمع ودعائمه، وهما سر رقيّ المجتمعات وسُموها، فلا تقدم لمجتمع إن لم يُزرع في أبنائه كل معاني النبل والأصالة والاحترام.
إن عبارة “الوطن للجميع” كانت شعارًالثورة 1919م التي أظهرت وَحدة الشعب المِصريّ لأجل حرية بلاده. وقد ظهرت المواطنة في فكر المساواة بين أبناء الوطن الواحد، التي عبّر عنها الزعماء والقادة على مر التاريخ، والتي نسعى لتحقيقها في كل عصر.و… والحديث عن “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ