تحدثنا فى المقالة السابقة عن عدم تسامح «ڤالِنس» الدينىّ، واضطهاده الكنيسة القبطية الأُرثوذكسية، ثم نياحة البابا «آثناسيوس» وتولى البابا «بطرس الثانى» رئاسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وقد عانى هو والآباء الأساقفة والقساوسة النفى، واضطُهد الشعب بشدة. وقد ذكرنا أن المؤرخين يعتبرون بداية التقسيم الحقيقى للإمبراطورية الرومانية كانت مع تقسيمها بين «ڤالِنتينيان الأول» وأخيه «ڤالِنس». ثم خلف «ڤالِنتينيان الأول» فى حكم الغرب ابنه «جراتيان» الذى أشرك أخاه «ڤالِنتينيان الثانى» معه فى الحكم. ثم عيَّن «جراتيان» القائدَ «ثيؤدوسيوس» لحكم الشرق.
«ثيئودوسيوس الأول» (379-395م)
حكم إمبراطوراً للشرق حتى 392م ثم للشرق والغرب 392-395م وُلد فى إحدى مقاطعات شمال غرب إسبانيا، ونشأ فى إسبانيا مهتماً بدراسة التاريخ. وكان والده الأمير «فلافيوس ثيئودوسيوس» أحد أمهر القواد الرومان وأشجعهم فى أفريقيا. حارب «ثيئودوسيوس» مع والده وشارك فى الحملات ضد الأعداء فى بريطانيا خلال عامى 368 و369م، وضد الألمان فى 370م، وفى البَلقان
من 372-373م.
وعندما حُكم على والده بالإعدام، بسبب المؤامرات السياسية من أعدائه فى البلاط الملكى، عاد إلى إسبانيا حتى استدعاه الإمبراطور «جراتيان»ـ بعد هزيمة عمه الإمبراطور «ڤالِنس» وموته عام 378م- إلى البلاط الملكى ليطلب مساعدته كقائد عسكرىّ ماهر فى حربه ضد أعداء الإمبراطورية. وفى 379م، أعلنه إمبراطوراً مشاركاً له ليحكم الشرق ومقاطعات داكيا (رومانيا حالياً) ومقدونيا، ولقَّبه بأُغسطس المشرق. أقام «ثيئودوسيوس» فى بداية مدة حكمه (379-380م) فى تسالونيكى. وسعى لبناء الجيش فى تلك المدة، فأعاد الانضباط إلى صفوفه، كما سعى لتعزيز موقف الإمبراطورية الرومانية فى شبه جزيرة البلقان. حقق انتصارات باهرة على الغُوطيِّين الذين سعَوا لعمل المعاهدات مع الإمبراطورية الرومانية فى 382م.
كان «ثيئودوسيوس» مشهوراً ببسالته وشجاعته فى الحروب، وأيضاً محبته وإجلاله للدين المسيحى. وفى تلك المدة، كان حُكم الإمبراطورية ثلاثياً بين كل من: «جراتيان»، و«ڤالِنتينيان الثانى» فى الغرب، و«ثيئودوسيوس» فى الشرق. وقد قضَّى ثيئودوسيوس فى القسطنطينية المدة من نهاية 380م وحتى 387م مهتماً بتحسين أحوال البلاد، وبُنيت فيها أكبر ساحة عامة عُرفت فى العصور القديمة التى صُممت على نموذج «ساحة تراجان» فى روما.
ثيئودوسيوس يجمع حُكمَى الشرق والغرب
فى 383م، غادر «جراتيان» على رأس الجيوش للتصدى لأعداء الإمبراطورية فى فرنسا، ولكنه قٌتل فى الحرب، وبذلك أصبح حكم البلاد بين كل من: «ثيئودوسيوس» و«ڤالِنتينيان الثانى». وتعرض «ثيئودوسيوس» لبعض اتهامات بتورطه مع الأعداء فى مقتل «جراتيان»، إلا أن هذا الأمر لا أساس له من الصحة.
وما أن وصل خبر موت «جراتيان» إلى الأمير «مكسيموس» القائد الإسبانى للجيوش الرابضة على الحدود الإنجليزية، حتى رغِب فى حكم البلاد ونادى به جنوده إمبراطوراً على المقاطعات الغربية بدلاً من «جراتيان». وفى ذاك الحين، لم تكُن لدى «ثيئودوسيوس» المقدرة على وقف «مكسيموس» بسبب فقدانه آنذاك إلى القوة العسكرية والحدود الآمنة لبلاده. وبهذا أصبحت الإمبراطورية فى الغرب تحت حكم «ڤالِنتينيان الثانى» و«مكسيموس»، وفى الشرق «ثيئودوسيوس».
استمر حكم الإمبراطورية حكماً ثلاثياً حتى قام «مكسيموس» بغزو إيطاليا عام 387م، مما اضطر «ڤالِنتينيان الثانى» إلى الهرب إلى تسالونيكى وهو ما جعل «ثيئودوسيوس» يقرر إعلان الحرب على «مكسيموس». وكان وضع «ثيئودوسيوس» قد تقوى آنذاك، بعد عمل معاهدات مع الفرس، وتأمين حدود الإمبراطورية فى الشرق. استدعى «ثيئودوسيوس» فرقة من الجيش الرومانى من مِصر إلى أفريقيا، وأرسل «ڤالِنتينيانَ الثانى إلى إيطاليا فى أسطول، وأعد جيوشه لمواجهة جيش «مكسيوس» فى 388م الذى هُزم وقُتل فى المعركة، فأصبح حكم الإمبراطورية لثيئودوسيوس و«ڤالِنتينيان الثانى». وفى 392م، قُتل «ڤالِنتينيان الثانى» بيد «أربوغست»مستشاره الذى أعلن «أوجينوس»- الذى كان على عَلاقة وطيدة بأعضاء مجلس الشيوخ الوثنى- حاكماً على
الغرب.
قرر «ثيئودوسيوس» عدم المخاطرة بالبلاد بتعريضها إلى حرب أهلية، ولكنّ الأوامر التى أصدرها فى عامى 391 و392م بمنع العبادات الوثنية أدت إلى مواجهة بينه وبين الوثنيِّين الذين التفوا حول «أوجينوس». وفى 394م، التقى الجيشان على حدود إيطاليا الشرقية، وانتصر على أعدائه، ومات فى الحرب كل من «أربوغست» و«أوجينوس»، وبهذا جمع الإمبراطور «ثيئودوسيوس الكبير» حكم الإمبراطورية الرومانية شرقاً وغرباً. ويذكر المؤرخون أنه آخر القياصرة الرومان الذين جمعوا حكم الإمبراطورية فى الشرق والغرب. ومات
«ثيئودوسيوس» بطريقة غير متوقعة فى 395م، بعد انفراده بالحكم مدة سنة واحدة فقط.
شخصية ثيئودوسيوس الإمبراطور
كان الإمبراطور «ثيئودوسيوس» محباً للعدل مع رعيته، ذا صفات وخِصال حسَنة. فاهتم بأمور بلاده ورخائها، وبأعمال البناء والتشييد. وكان محباً ومُجِلاً للمسيحية، حتى جعلها الديانة الرسمية للبلاد.
عمِل «ثيئودوسيوس قيصر» على إبطال عبادة الأوثان فى أنحاء الإمبراطورية كافة، منذ توليه حكم الشرق فى 379م. ومنذ ذاك الوقت وحتى إصداره مرسوماً عام 391م ـ الذى حذر فيه من: تقديم الأضاحى إلى المعبودات الوثنية، وزيارة المعابد، وبطلان العبادات الوثنية والقرابين وإحراق البخور وممارسة الكِهانة ومعرفة الغيب – كان يتعامل على أساس من التسامح نحو الوثنيِّين، وعيَّن بعض أتباع الطوائف القديمة فى أعلى المناصب.
سياسته وتأثيرها فى مِصر
أثرت سياسة الإمبراطور «ثيئودوسيوس» فى مِصر تأثيراً كبيراً، إذ أُغلقت المعابد المِصرية وتوقف الوثنيُّون عن ممارسة شرائعهم. وذكر بعض المؤرخين: «وكان للمِصريين يومئذ أربعون ألف صنم للعبادة، فحل محلها دين المسيح الآمر بالتوحيد. ومع ذلك، فقد بقِى من العاكفين على دِين الوثنية كثير بصَعيد مِصر، ولم يُمحَ هذا الدين إلا بتوالى الأيام وكُرور (رُجوع) الأعوام. واشتُهر أهل مِصر من هذا التاريخ بِاسم (قِبط مصر)، فطائفة الأقباط من أهالى مِصر الآن هم المتنصِّرون من ذرية الأمة المِصرية القديمة، وهم بقية ذلك الشعب الذى قدَر واقتدر وفاز واشتُهر». وقد مارس المسيحيُّون طقوسهم فى مِصر علناً فى أيام الإمبراطور «ثيئودوسيوس»، هذا على الصعيد الدينى. أما على الصعيد العام، فقد تقدمت مِصر فى أيامه، وزالت منها الفتن، فكانت أيامه راحة وأماناً، مما أثر بطريقة إيجابية فى التشييد والمعمار فى البلاد، وراجت تجارة البلاد وزادت ثرواتها.
وذُكر فى بعض المصادر أنه فى 390م، أمر بنقل مسلة «تُحتُمس الثالث» من جوار معبد الكرنك فى طيبة إلى القسطنطينية حيث قُسِّمت إلى ثلاث قطع ثم رُكِّبت صحيحةً مرة ثانية.
ثيئودوسيوس قيصر والكنيسة
حين حكم «ثيئودوسيوس»، أدرك أن الكنيسة فى القسطنطينية قد تأخرت وتدهورت أحوالها بسبب اضطهاد «ڤالِنس» للأُرثوذكسيِّين، مما جعله يطلب من البابا «بطرس الثانى»، بابا الإسكندرية، أن يقوم بإصلاح أحوالها، إذ كانت ثقة الأباطرة والقياصرة كبيرة برؤساء الكنيسة القبطية. وقد اهتم البابا «بطرس الثانى» بمتابعة شؤون كنيسة القسطنطينية حتى سلمها إلى القديس «غريغوريوس النازيَنزى» ليرأسها. ثم استمر البابا «بطرس الثانى» فى رعاية شعبه حتى تنيح بسلام عام 380م، وخلفه على كرسىّ الإسكندرية البابا «تيموثاوُس الأول» الذى كان تلميذاً للبابا آثناسيوس الرسولى.
ودعا الإمبراطور «ثيئودوسيوس» إلى عقد المجمع المسكونى الثانى فى القسطنطينية عام 381م، وقد كان المجمع الأول فى نيقية عام 325م.
انقسام الإمبراطورية
وخلف «ثيئودوسيوس» قيصر فى حكم البلاد ولدا: «أركاديوس» و«هونوريوس». ومنذ ذاك العهد والمملكة الرومانية صارت مملكتين مستقلتين: الأولى فى الشرق وعاصمتها القسطنطينية، والثانية فى الغرب وعاصمتها روما. وبهذا يُعد موت «ثيئودوسيوس» قيصر النهاية الحقيقية للإمبراطورية الرومانية. وقد حكم الشرقَ الإمبراطور «أركاديوس»، وصارت مِصر خاضعة لحكم قياصرة الشرق، الذين أُطلق عليهم «قياصرة الروم». ويعتبر بعض المؤرخين أن حكم قياصرة الروم فى مِصر هو حكم للأسرة الخامسة والثلاثين فى تعداد الأُسَر التى حكمت مِصر.
و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى