تحدثت المقالة السابقة عن سماح الوزير “شاوَر” للفرنج بوجود فرسانهم بـ”القاهرة” وبالتحكم في أبوابها، ومحاولتهم الاستيلاء على “مِصر”، وأمر إحراقها، ثم قدوم “أسد الدين” إليها بالجيوش ليصبح بعد مقتل “شاوَر” وزيرًا للبلاد شهرين فقط، وتولي “صلاح الدين يوسف بن أيوب” (“صلاح الدين الأيوبيّ”) الوَزارة “مِصر” ملقَّبًا بـ”الملك “الناصر”.
ولما مات “أسد الدين”، اختلف ثلاثة من أمراء “نور الدين” الذين صحبوا “أسد الدين” إلى “مِصر” على تولية “صلاح الدين” مكان عمه، وهم: “عين الدين الياروقي” رأس الأتراك، و”سيف الدين المشطوب” ملك الأكراد، و”شهاب الدين محمود” حاكم “حارِم” خال “صلاح الدين”؛ إذ رغب كل منهم الوَزارة. لٰكن “العاضد” استدعى “صلاح الدين” وولّاه أمور الوَزارة. وحين وصل الملك العادل “نور الدين” أمر اتفاق أمراء “مِصر” على تولية “صلاح الدين” شُؤون وزارة “مِصر”، طلب إليه “شمس الدولة توران شاه بن أيوب” أن يسمح له بالذَّهاب إلى “مِصر” ليشدد من أزر أخيه”صلاح الدين” فسمح له؛ ويذكر المؤرخون: “وسار («توران شاه») إلى «مِصر» فتلقاه «صلاح الدين» من «بلبيس» وخدمه وقدم إليه المال والخيل والتّحف، وأقام عنده أحسن حال؛ وفعل ما ضمِن لـ«نور الدين» من خدمة أخيه «صلاح الدين»، وقَوِيَ أمر «صلاح الدين» به واستقام أمره.”.
ولما تولى “صلاح الدين” أمر الوَزارة، اهتم بالعسكر وأعطاهم الأموال وأحسن إلى الجميع – العسكر الشاميّوالمِصريّ – فأحبوه وأطاعوه، وقام نائبًا عن “نور الدين” حتى إنه دُعي له على منابر “مِصر” بعد الخليفة “العاضد” و”نور الدين”، حتى عام 567هـ (1172م) حين قًطعت الخطبة “للعاضد” وعاد الدعاء لـ”بني العباس”.
أما الخليفة “العاضد”، فحين رأى أن شوكة “صلاح الدين” قويت بالبلاد خشيَ العاقبة؛ فأمر خادمه “مؤتمن الخلافة جوهر” – وكان مقدَّم “السودان” والخدم – بقتال الترك والغُزّ (قبيلة منهم)؛ فثار العسكر المِصريّ مع الخادم وقتلوا جماعة من الترك؛ فغار كل من “صلاح الدين” و”شمس الدولة” لأصولهما التركية وعزما على الثأر فدخلا إلى قصر “مؤتمن الخلافة”؛ فقُتل هو وعدد كبير من السودانيين بعد حروب عظيمة. وقد ذكر المؤرخ “ابن تَغريّ” عن القاضي “جمال الدين بن واصل”: “حكى لي الأمير «حسام الدين بن أبي عليّ» قال: كان جَدي في خدمة «صلاح الدين»، فحكى أنه لما وقعت هذه الواقعة (يعني وقعة السودان بالقاهرة) التي زالت دولتهم فيها، وزالت آل عُبَيد من «مصر» …. قال: فسيَّرني (صلاح الدين) يومًا إلى «العاضد» أطلب منه فرسًا ولم يبقَ عنده إلا فرس واحد، فأتيته وهو راكب في البستان المعروف بـ«الكافوريّ» الذي يلي القصر، فقلت: السلطان «صلاح الدين» يسلم عليك ويطلب منك فرسًا؛ فقال: ما عندي إلا الفرس الذي أنا راكبه، ونزل عنه وشقَّ خُفَّيه ورمى بهما وسلم إليَّ الفرس، فأتيت به «صلاح الدين»، ولزِم «العاضد» بيته. واشتغل «صلاح الدين» بالأمر، وبقيَ «العاضد» معه صورة إلى أن خلعه وخطب في حياته لأمير المؤمنين «المستضيء بأمر الله» العباسيّ …”.
وتُوفي “العاضد” وهو ابن ثلاثة وعشرين؛ وقد اختلف المؤرخون في أسباب موته: فقيل إنه حين أدرك أن حكمه قد آل إلى نهاية أصابه مرض شديد أودى بحياته، وقيل إنه لما علِم بأمر الخُطبة لـ”بني العباس” في الديار المِصرية بعد قرابة قرنين من الزمان حزِن بشدة ومات، وذُكر أنه حين تيقن من زوال دولته وحكمه مص فصًّا مسمومًا كان في خاتم بيده فمات لتوه. وبموت الخليفة “العاضد”، انتهى حكم الخلفاء الفاطميِّين بـ”مِصر” ودولتهم التي استمرت ما يزيد على مئتي عام. و… والحديث عن “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ