تحدثت المقالة السابقة ببعض مما شهِده عهد “البابا غبريال الثاني”: حرب شديدة بين الجند والسودانيِّين بـ”أطفيح”، معاناة أقباط “مِصر” من “رِضوان بن وَلَخْشِي” وزير “مِصر”، تأثر البلاد بانخفاض مياه النيل، ما حدث من ملك الحبشة الذي أراد رسم أسقف جديد لبلاده فأرسل خطابًا إلى الخليفة، يرجوه التدخل لدى “البابا غبريال” في أمر السيامة، واعتذار البابا وعدم قبوله المخالفتها القوانين الكنسية؛ ويذكر المؤرخ الكنسيّ “ساويرس بن المقفع” عن كاتب سيرة البابا البطريرك: “كتب البطرك كتابًا يردعه (يردع ملك الحبشة) ويأمره أن يرجِع عما طلبه وسيَّر الكتاب إليه. ولما عادوا رسل البطرك من الحبشة، أخبروا أن نارًا نزلت من السماء على قصر الملك فأحرقت بعضه، ثم أصاب بلاد الحبشة غلاء عظيم في تلك السنة، و وبأ عظيم، ولم يُمطر فيها مطر، وقاسوا لأجل ذٰلك صعوبة عظيمة. فقبِل الملك كتاب البطرك ورجَع إلى الله، وكتب إلى خليفة «مِصر» يسأله أن يسأل البطرك (أن) يحلله (يحُله من ذنبه) ويكتُب له كتاب بركة عليه وعلى بلاده”، ويستطرد الكاتب قائلاً: “فكتب له بذٰلك وسيَّره إليه، فرفع الله في ساعة وصول الكتاب إليهم بخطه عنهم، وأدركتهم رحمته …”.
وفي أيام “البابا غبريال الثاني”، جدد “أنبا ميخائيل” أسقف صَهْرَجْت (مركز “ميت غمر”) “كنيسة مار جرجس بمنية زفتى”، إلا أن بعضًا استولَوا عليها زاعمين أنها بناء جديد استحدثه الأقباط، فطلب الأسقف استعادتها من الوزير وأثبت قدمها وأعيدت إليه بعد مقاساة شديدة وغرامة كثيرة.
وقد تعرض البابا “غبريال الثاني” لمتاعب داخلية؛ فقد وشى أحد رهبان “دير أبو كاما” بالرهبان لدى الخليفة “الحافظ”، متهمًا إياهم كذبًا بأن لهم علومًا تمكنهم من معرفة ما يحدث للملوك، وكيفية التغلب على الدول، وجمْع الأموال والذهب والفِضة، مخالفين وصايا الإنجيل وتعاليم السيد المسيح، كما اتهمهم بامتلاك صورة ساقية بلور لا يملك مثلها أحد من ملوك الدنيا! فعند سماع “الحافظ” تلك الأمور، أمر بإرسال حُجّاب وجند مع ذٰلك الراهب الذي ـ كما يذكر كاتب السيرة: “أخذهم وطلع إلى الديارات بـ«وادي هبيب» («وادي النطرون») وسلطهم على الرهبان؛ فأهانوهم، وأحرقوا بهم، وغرموهم، ونهبوهم، وقطعوا مصانعتهم، وحل بهم منه شدة عظيمة”. ثم أخذوا بعض الرهبان الشيوخ إلى “القاهرة” لدى الخليفة الذي أدرك عدم صدق كلام الراهب المشتكي؛ فأحسن إليهم وأمر بإعادتهم إلى أديرتهم بسلام. أما ذٰلك الراهب الذي أشاع الكذب والمذمة، فقد مات بعد حُلول شدائد عظيمة به.
وتنيح “البابا غبريال الثاني” سنة 1145م بعد أن مرض قليلاً، بعد أن جلس على كرسي البطريركية 14 عامًاوبضعة أشهر، ليخلُفه “البابا ميخائيل الثالث”.
“البابا ميخائيل الثالث” (1145-1146م)
الحادي والسبعون في بطاركة الإسكندرية. وقد حدث أن اجتمع الأساقفة لاختيار بطريرك للكرسيّ المَرقسيّ فلم يتفقوا؛ إذ أخذ أحد الرهبان ويُدعى “يؤَنِّس بن كدران” في مقاومتهم مع ثلاثة من الأساقفة من أجل أن يحقق مشتهاه فيمنصب البطريركية، لٰكن أساقفة الإسكندرية والصعيد رفضوا سيامته. وبعد مباحثات ومناقشات، اتحد رأي الأساقفة جميعًا باختيار ثلاثة رهبان وانتخاب أحدهم لمهام البطريركية: “يؤَنِّس بن أبي الفتح”، و”ميخائيل من دير أبي يُحَنِّس” الملقب بـ”الدقادوسي”، و”سُلَيمان بن الدجنادي” من دير “برموس”؛ وكُتبت أسماؤهم و وُضعت بالهيكل، وأقيمت الصلوات ثلاثة أيام متوالية، ثم أحضروا طفلاً لالتقاط أحد الأسماء فجاءت القرعة على الراهب “ميخائيل” الذي ذُكر عنه: “شيخ حسَن الوجه، والهيئة ذات وقار وعفة، قديس طاهر، إلا أنه لم يكُن عالمًا ولا راضَ (روَّضَ) نفسه في قراءة الكتب (لم يُلم بقراءتها)”، فقد كان يجهل القراءة والكتابة سواء بالقبطية أو العربية، و… والحديث عن “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ