تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الإمبراطور «ثيئودوسيوس الأول» للإمبراطورية الرومانية، الذى بدأ بحكم الشرق ثم جمع حُكمَى الشرق والغرب، وعن انقسام الإمبراطورية بعد موته لتصبح مملكتين مستقلتين: الأولى فى الشرق وعاصمتها القسطنطينية ويحكمها ابنه «أَركاديوس»، والثانية فى الغرب وعاصمتها روما ويحكمها ابنه «هونوريوس». أمّا عن مِصر فكانت تحت حكم قياصرة الشرق، الذين اعتبرهم بعض المؤرخين الأسرة الخامسة والثلاثين التى حكمت مِصر. وقد امتد حكم الروم على مِصر إلى 259 عامًا حتى جاءها الفتح الإسلامىّ.
«أَركاديوس قيصر» (395 – 408 م)
رغِب الإمبراطور «ثيئودوسيوس» فى تأمين وصول الحكم من بعده لابنه الأكبر «أَركاديوس»؛ فقام بإعطائه رتبة «أُغسطس» فى 383م، وكان يبلُغ آنذاك خمس أو ست سنوات! وقد وضعه فى بداية ممارسته لحكم الشرق تحت إشراف الحاكم الإمبراطورىّ فى المشرق «تاتيان» ومن بعده «روفينيوس».
وفى 395م، مات الإمبراطور «ثيئودوسيوس» ليؤول حكم المشرق إلى ابنه «أَركاديوس» الذى كان حينئذ فى الثامنة عشْرة، ولم يحكم بمفرده بل كان تحت وِصاية الحاكم الإمبراطورىّ «روفينيوس». وقد اختلف المؤرخون فى أمر «أَركاديوس»، فذكر بعضهم أنه أول قياصرة الروم، وقال البعض الآخر إنه ثانيهم، على اعتبار أن «ثيئودوسيوس» هو مؤسس هٰذه الدولة فى الشرق ولا يمكن إهمال دوره وجهوده فى تأسيس المملكة الرومانية
وتثبيت دعائمها فى الشرق.
وصية «ثيئودوسيوس» قيصر
كتب الإمبراطور «ثيئودوسيوس» وصية إلى ابنه «أَركاديوس» عندما سلمه حكم البلاد، وهٰذا نصها من أحد المراجع القديمة:- «لو كنتَ يا بُنىّ من أبناء ملوك فارس وعُهد إليك بمُلكها، وآلت إليك دولتها، لكان عنوانك الكِسْرَوىّ كافيًا فى حفظ سَرير مُلكك (عرشك) وصيانة تاج دولتك. ولٰكنْ مَنبَتك أرض الروم وحال أهلها يا بُنىّ معلوم، فكُن حازمًا فالحزم يَنفَع فاعله. وإن كنتَ ممن يجهل الأمر فاسأل. فإذا أردتَ أن تكون أهلًا لأن تحكم الأمة وتسُوسها، فابدأ بنفسك واحكُمها وأحسِن سياستها قبل ذٰلك لتعلم كيف تغلِبها؛ فالعاقل من هذَّب نفسه وغلَّب عقله على هواه.
والناس يا بُنيّ صِنفان: سُوقة، وملوك. فالسُّوقة لا همَّ لهم إلا إسعاد أنفسهم، وأمّا الملوك أمثالك فهَمّهم إسعاد الرعايا؛ فإن سعادة الرعايا هى سعادة الملك. فإذا تغلبَت عليك يا بُنىّ الذنوب وجرت بك إلى ارتكاب العيوب فأنت عبد هوى. ولو تحلَّيتَ بتاج القياصرة، فاحترس من تغلُّب الشهوات النفسانية وخلِّها (اتركها) للرعاع من الرعية؛ فإن الشهوات الدنيوية تُعرض للأمراء والملوك وتكون فى كل حال نُصب أعينهم فتغلِبهم. فإذا أردتَ أن تتخلَّق بأخلاق ملك الملوك وسلطان السلاطين، فتخلَّق برحمته وحِلمه واتبع دائمًا طرق العدل والإحسان، ولا تلتفت إلى فعل الخير لمجرد المدح أو القَدح من إنسان؛ فإن العامة لا يتحاشَون من مدح الملوك أو القدح فيهم. فكُن باستكمال الفضائل ومكارم الأخلاق صورة للعدل والإحسان، وتخلَّق بأخلاق المَلك الخلّاق لكى تكون ذا سلطان على قلوب الرعية تستغنى به عن الإرهاب بالسيف وشدة البأس. وقد جرت عادة الرومانيِّين أنهم لا ينقادون إلى ذى كبرياء؛ فخَلِّ أُبَّهة المُلك لملوك آسيا والبلاد المشرقية وتَحَلَّ بحِلْية (بصفة أو خِصلة) عظماء القياصرة الرومانية. وأُوصيك: إذا عادَيتَ ملكًا من الملوك، فاحكم قيادة جنودك، وأحسِن فى الإمْرة (الإمارة؛ والمقصود القيادة)، والسلوك، لتطاع منهم وينفَّذ أمرك فيهم، واقتسِم اقتحام الأخطار مع الجند؛ فإنهم بك يقتدرون، ويستسهلون المهالك، ولا يُبالون باقتحامها.
ومما تتأكد به الوصيةُ وتجِب فيه النصيحة؛ أن تواظب على قراءة تاريخ من سبقك من القياصرة لتعرف ما أصابهم من النُّصرة والهزيمة، وتقف على أسباب العزة والهوان لتَفقَه من ذٰلك ما يجب فعله، وتتفطَّن لما ينبغى عليك اجتنابه». إلا أن «أركاديوس»، لعدم حكمته، لم يتَّبع نصيحة أبيه ووصيته؛ مما جعله لا ينجح فى إدارة شؤون البلاد، وصار مكروهًا عند شعبه.
حكم «أَركاديوس»
ومع بَدء حكمه للبلاد، حاول «أَركاديوس» إثبات وجوده كقوة مستقلة عن الحاكم الإمبراطورىّ «روفينيوس»، وعن أفراد البلاط الملكىّ، فلم يجد طريقًا سوى إصدار بعض القوانين والمراسيم الدينية ضد البِدَع والوثنية، فى محاولة منه لاستكمال طريق أبيه فى الحكم مما قد يُضفى على حكمه بعضًا من هٰذه النجاحات ومحبة الرعية له، بالإضافة إلى أن هذا كان سبيله الوحيد المتاح له ليحكم البلاد فى ظل وجود وُزراء أقوياء يسيطرون على الجيوش ومقاليد الحكم. وقد كانت لروفينيوس مساعٍ أخرى؛ فعلى حين حاول الإمبراطور أن يحقق لنفسه الاستقلال عن كل من هو حوله، كان «روفينيوس» يسعى لزيادة الرابطة بينه وبين الإمبراطور من خلال دفعه إلى الزواج بابنته. إلا أن «أَركاديوس» انتهز فرصة غياب «روفينيوس» عن البلاد وتزوج «أُودُكسيا»، التى كانت تحت وصاية القائد «بروموتوس»، ألد أعداء «روفينيوس».
كان «أَركاديوس» غير مؤهَّل لحكم المملكة، لضعف قدرته على إدارة شؤون الإمبراطورية، وبخاصة مع تحكم «روفينيوس» المطلق فى الشرق وسعيه للاستقلال بالحكم وخلع القيصر، لٰكنه كان يخشى بأس الإمبراطورة «أُودُكسيا» التى عُرف عنها القوة والتسلط والقسوة؛ حتى إنها أساءت معاملة القديس «يوحنا الذهبىّ الفم» بطريرك القسطنطينية.
«روفينيوس»
كان «ثيئودوسيوس» قبل موته قد جعل القائد العسكرىّ الأمير «ستيليكو» كفيلًا على ولدَيه. وبعد أن تولَّيا الحكم، انشغل الأمير بتقسيم الأموال والعساكر بين الأخوين، إلا أن أخبار استبداد «روفينيوس» وظلمه وتعسفه وصلت إلى مسامعه، فكان ينتظر تحيُّن الفرصة لعزله. وقد واتته الفرصة عندما تعرضت المملكة الشرقية لهجوم الغُوطيِّين (قبيلة من ألمانيا، منهم الشرقيُّون والغربيُّون)، الذين غزَوا ممتلكات الإمبراطورية حتى اقتربوا من القسطنطينية دون أن يجدوا من يصدهم عن البلاد. اتجه الأمير «ستيليكو» على رأس جيش عظيم من إيطاليا إلى القسطنطينية للدفاع عن الإمبراطورية والانتقام من «روفينيوس» – وكان قد حارب الغُوطيِّين وهزمهم شر هزيمة – وبينما هو فى طريقه إلى القسطنطينية، شعَر «روفينيوس» أن الأمير «ستيليكو» يَهدِف بمجيئه هٰذا إلى التخلص منه وقتله؛ فأسرع إلى «أَركاديوس» طالبًا منه أن يبعث إلى الأمير «ستيليكو» بأوامره بإرسال الجنود إلى القسطنطينية دون حضوره معهم. وقد أطاع القائد الأمر وأرسل جميع جنوده، إلا أنه أعلم قائد الجيوش «غايناس» وقادة القوات برغبته فى التخلص من «روفينيوس» فعاهدوه على إتمام الأمر له.
عند دخول الجيوش الرومانية إلى مدينة القسطنطينية، التقاهم «روفينيوس» الذى انخدع بهم، إذ أظهروا له كل الطاعة والولاء، فاعتمد عليهم وكاشفهم برغبته فى قتل الإمبراطورة، ومن ثَم وصوله إلى الحكم بمبايعة الجيوش له؛ فوافقوه وأعلنوا تأييدهم له وفى الوقت نفسه لم يخبروا أحدًا بهٰذه الأمور حتى الإمبراطور «أركاديوس» لِما وجدوه فيه من عدم حكمة. وعند استقرار الأمور للقوات، طلب رئيسُ الجيش الأميرُ «غايناس» إلى «روفينيوس»
أن يتفقد الإمبراطور جنود الجيش ونظامهم وأسلحتهم. وعند حضور «أركاديوس» بمصاحبة «روفينيوس» إلى الميدان، بَدَآ بمصافحة رؤساء الجنود، ثم تفقَّدا الجنود. وما إن وصَلا إلى قلب صفوف الجيش حتى أحاطت بهما الجنود من كل ناحية، وانقض أحدهم على «روفينيوس» وقتله، كما قتل الأميرُ وبعض الجنود جميع أعوانه فى البلاد. وعند سريان خبر مقتل هذا الطاغية بين الشعب، ابتهجت الرعية وفرِحت فرحًا عظيمًا جدًا، وتدفقت الجموع إلى الميدان لتشاهده جثة هامدة. ويذكر المؤرخون أن من شدة كراهية الشعب إياه، أنهم قاموا بالتمثيل بجثته وسحبها وجرها فى أنحاء المدينة كافة. وقد ضُبطت أمواله وممتلكاته بعد هروب زوجته وابنه إلى أورشليم خِشية القتل. وبعد موت «روفينيوس»، ولَّى الإمبراطور شخصًا يُدعى «أُطروبيوس»، الذى كان حاجب الدولة آنذاك.
وفى تلك الأثناء، كان الأمير «ستيليكو» يرى أحقيته فى كفالة قيصر المشرق بحسَب وصية أبيه «ثيئودوسيوس» قيصر، إلا أنه تراجع عن هٰذا لئلا تبدأ الحروب بين الأخوين وتقع العداوات بينهما؛ فلم يدخل الأمير فى سياسة «أَركاديوس» أو تدبيره للبلاد. وهٰكذا صارت الإمبراطورية منقسمة إلى جزءين مستقلين؛ كل منهما عن الآخر تمامًا. وعن حكم «أَركاديوس» وتأثيره فى مِصر الحُلوة، فالحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ