تحدثت مقالة سابقة عن “البابا ميخائيل الثالث”، الحادي والسبعين في بطاركة الإسكندرية، وعن نبوءة أحد الآباء الرهبان بسيامته بطريركًا، ورسامته عددًا من الأساقفة، ونياحته بعد أن قضَّى على الكرسيّ المَرقسيّ مدة قصيرة جدًّا لم تمتد سوى أشهر؛ ليخلُفه البابا “يوحنا الخامس”، الثاني والسبعون في بطاركة الإسكندرية، بعد مفاوضات ومناقشات انتهت بعقد مجلس من كهنة الإسكندرية وكبار الأراخنة انتهى بالإجماع على اختياره، وكان هو راهبًا يُدعى “يؤَنِّس بن أبي الفتح”، واللافت في ذٰلك المجلس أنه سئل عن رأيه في راهب آخر يُدعى “يؤَنِّسابن كدران” ـ كان يسعى للبطريركية ويشتهيها ـ ومدى استحقاقه لمنصب البطريركية، فأجاب: “نعم هو أصلح مني وأعلم بالشريعة”؛ فحسُنت إجابته لدى الحُضور وازداد قدره في أعينهم جميعًا من أجل كلماته تلك، ثم رُسم بطريركًا باسم “يوحنا الخامس” على كرسيّ “مار مَرقس الرسول” في أيام الخليفة “الحافظ لدين الله”. وأراد “البابا يوحنا الخامس” سيامة “يؤَنِّس ابن كدران” أسقفًا على “سمنود” من أجل أن يطيّب قلبه، لٰكنه رفض وعاش حياته بين الدير والريف حتى موته.
وقد عاصر “البابا يوحنا الخامس” حادثة هروب الوزير “رِضوان بن وَلَخْشِي” وحشده عددًا من الجنود، ثم دخوله “القاهرة” وموته بأيدي جند السودان ومن معهم، واستمرار الخليفة “الحافظ” دون وزير حتى موته عام 544هـ (1149م)، وتولي “أبي المنصور” ابنه أمور الخلافة من بعده ولُقب بـ”الظافر”، واستوزر “العادل بن السّلّار” الذي في أيام وزارته تعرض الأقباط لبعض المتاعب فيذكر عنه المؤرخ “أنبا ساويرس ابن المقفع”: “وقصد (وأمر) النصارى بـ«القاهرة» و«مِصر» في أيام «العادل بن السَّلّار» أن يشُدوا الزُّنّار(حزام على الوسط) ويقلعوا طيالسهم (نوع من الأوشحة)؛ فلم يستمر ذٰلك سوى ثلاثة أيام”؛ وكان سبب ذٰلك وشاية إلى والي “مِصر” أن تلك الأفعال سوف تجلب مالاً كثيرًا، فلما لم تتم أمر أن يُنادى في اليوم الرابع أن يعودوا إلى عادتهم.
أيضًا شهِد عصر “البابا يوحنا الخامس” سقوط “عسقلان” آخر مدن الفاطميِّين في “الشام” في أيدي الفرنج عام 1153م. وعام 1154م، كانت حادثة قتل الخليفة “الظافر” بيد “ناصر الدين بن عباس الوزير”، ثم قتل الوزير “عباس” أخوي الخليفة متهمًا إياهما بقتله، وأخذ ابن الخليفة وهو طفل صغير وأجلسه خليفة باسم “الفائزبدين الله”، ثم قيام “طلائع بن رُزِّيْك” والي “البهنسا” بالثأر لقتل الخليفة من الوزير “عباس” وولده فهربا، لٰكنه تمكن أخيرًا من قتل “عباس” وأسر ابنه (كما ذُكر بمقالات سابقة).
وحين تمكن “طلائع بن رُزِّيْك” من الوزارة، ذُكر عنه: “وكان محبًّا لجمع المال، وأهلك نفوسًا كثيرة في المطالبة بالمال، وجمع منه شيئًا كثيرًا من غير وجوهه، وكان يقرِّب الرفاعين (المنجمين) ويُحسن إليهم ويسمع أقوالهم، مبغضًا للنصارى وبعض مذاهب المسلمين، لأن مذهبه كان إماميًّا (شيعيًّا) …”. وقد حل غلاء في تلك الأيام، وظهر طاعون الماشية في “مِصر” المرة الأولى فأهلك كثيرًا من الأبقار. وقد مات الخليفة “الفائز” عام 1160م، وجلس من بعده ابن “الحافظ” ولُقب بالخليفة “العاضد لدين الله” الذي في أيامه قُتل الوزير “طلائع”، وتولى أمور الوزارة من بعده ابنه “رُزِّيْك”، ثم انتزعها منه والي الصعيد “شاوَر بن مُجِير السَّعْديّ” الذي قام عليه “ضِرغام بن عامر”؛ فهرب “شاوَر” إلى “دمشق” وطلب مساعدة الملك العادل “نور الدين”، الذي أرسل جنده بقيادة “شِيرِكُوه” وابن أخيه “صلاح الدين” فأعادوه إلى منصبه بعد حروب عنيفة قاساها المصريون جميعًا، وبخاصة الأقباط إذ تعرضوا لكثير من الإهانات فقد كانوا يُباعون عبيدًا، واستُشهد بعضهم كالراهب “شِنُّوفه” من “دير القديس مقاريوس” بوادي النطرون، وهُدّمت كنائس كثيرة. و… والحديثفي “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ