استكملت المقالة السابقة الحديث عن “البابا يوحنا الخامس”، وبعض الأحداث التي شهِدها عصره حتى نياحته سنة 1166م؛ ليخلُفه “البابا مرقس ابن زرعة”.
“البابا مَرقس ابن زرعة” (1166-1189م)
الثالث والسبعون في بطاركة الإسكندرية. كان اسمه قبل سيامته بطريركًا “أبا الفرج بن أبي أسعد”، ويُعرف بـ”ابن زرعة” نسبة إلى جَده الكبير، وهو من أصل سريانيّ. شهِد بتقواه وصلاحه وعفته المسلمون والمَسيحيُّون؛ فيذكر كاتب سيرته: “وأنا، المسكين، ناظم هٰذه السيرة، رأيت هٰذا الأب قبل تقدمته (رسامته)، وكنتُ ساكنًا بجواره بمدينة «مِصر»، وكان كثيرًا من الناس المسلمين والنصارى (المَسيحيين) بـ«مِصر» يشهدون له بالعفة والديانة والصوم والصلاة والصدقة، وفعل الخير مع كل الناس. وإنه بتول لم يتزوج قطّ، ولا شُهد له صبوة (ميل إلى اللهو) ولا زلة. وكان عالمًا في دينه خبيرًا بأمور الكهنوت”. تنبأ سلفه “البابا يوحنا الخامس” عن رسامته بطريركًا من بعده؛ ولذا حين خلا الكرسيّ البطريركيّ بعد نياحة “البابا يوحنا الخامس” تذكر الشعب كلماته وأجمع على اختيار “أبي الفرج بن أبي السعد” خليفةً للقديس “مار مرقس الرسول”، وكان ذٰلك في عهد خلافة “العاضد لدين الله” آخر خلفاء الدولة الفاطمية بـ”مصر”.
شهِدت أيام “البابا مرقس ابن زرعة” عدم استقرار وحروبًا كثيرة؛ وكما ذُكر بمقالات سابقة فإن الأمور بـ”مصر” قد ازدادت سوءًا في أيام “شاوَر” الوزير؛ إذ أبرم المعاهدات مع الفرنج وسمح لهم بالتمركز في “القاهرة”، وبالتحكم في أبوابها، وبإمدادهم بالأموال الطائلة. وفي سنة 564هـ (1169م)، عاد الفرنج إلى “مِصر” محاولين الاستيلاء عليها؛ فأتَوا من الساحل حتى وصلوا إلى مدينة “بلبيس”فقتلوا وأسروا وخرَّبوا؛ ثم توجهوا إلى “مِصر” وحاصروها، لٰكنهم واجهوا مقاومة شديدة من المِصريين. وفي تلك الأثناء، أمر “شاوَر” بإحراق “مِصر”؛ فسارع “نور الدين” إلى ردعهم بإرسال الجيوش بقيادة “أسد الدين شِيرِكُوه” ومعه ابن أخيه “صلاح الدين يوسف بن أيوب” (“صلاح الدين الأيوبيّ”). وحين وصلت الفرنج أخبار قدوم الجيوش، رجَعوا عن “مِصر” متجهين إلى الساحل. نزل “أسد الدين” بجُيوشه على باب “القاهرة”، وأقامه الخليفة “العاضد” وزيرًا للبلاد فتولى أمورها؛ حتى ذُكر أنه: “كان له يوم مشهود لم يُرَ في أيام الدنيا مثله،ووزَر (وصار وزيرًا) وملك”.
أمّا عن عَلاقة “أسد الدين” بالمَسيحيين واليهود، فقيل: “ولما كمَل له شهر في الملك، نادى بـ«القاهرة» أن يرفعوا النصارى عَذَب (أطراف) عمائمهم ويشُدوا زنانيرهم (أحزمتهم على أوساطهم)، واليهود خِرقة صفراء في عمائمهم”. وقد استمر “أسد الدين” وزيرًا شهرين ثم مات، وقيل إنه وهو يُحتضر أوصى بالوَزارة لـ”صلاح الدين”؛ وبالفعل تولاها من بعده ولُقب بـ”الملك الناصر”. وقد شبت منازعات كثيرة واندلع قتال عظيم بين “مؤتمن الخلافة جوهر” خادم الخليفة ومعه العسكر والسودانيُّون وبين “أسد الدين” و “صلاح الدين”. وفي أيام “صلاح الدين الأيوبيّ”، سمِع لمشورة القاضي بألا يستخدم المَسيحيين نظارًا على أموال الدولة ولا مشرفين؛ فاستبعدهم. ثم تُوفي “العاضد”، فانتهى بموته حكم الخلفاء الفاطميِّين على “مِصر” وانقضت دولتهم بعدما يزيد على مئتي عام. وتولى حكم البلاد “صلاح الدين الأيوبيّ” (الذي سيكون الحديث عنه تفصيليًا لاحقًا).
وفي بَدء حكم “صلاح الدين الأيوبي”، قاسى المَسيحيُّون من إصداره أوامر بأن: “تُنزع الصلبان الخشب التي كانت على كل قبة عالية في كل كنيسة من جميع الكنائس التي بأرض ديار «مِصر»، (وكل من) رأى كنيسة كان ظاهرها مُبَيَّضًا تُلَيَّس بالطين الأسود من فوق البياض، وأن لا يُدق ناقوس في جميع ديار «مِصر»، ولا يدور (يطوف) النصارى بالزيتونة (بأغصان شجرة الزيتون وبالسعف في عيد أحد الشعانين) في مدينة ولا قرية كالعادة الأولى”، ونال المَسيحيِّين إهانات كثيرة وتهديم عدد من كنائسهم. وقد تلقى “البابا مرقس ابن زرعة” جميع تلك الشدائد بالصلوات الحارة حتى تغير قلب السلطان من نحوهم، و… والحديث في “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ