تحدثت مقالة سابقة عن السلطان “صلاح الدين الأيوبيّ” ومشورة “نَجم الدين” أبيه له أن يكتُب إلى “نور الدين” مقدمًا إليه الطاعة؛ فترك “نور الدين” أمر خلع “صلاح الدين” عن “مِصر” وانشغل بأمور أخرى. وظل “صلاح الدين” نائبًا عن “نور الدين” في حكم “مِصر” حتى تُوُفِّي فصار هو حاكمها. وسنة 1182م قاد “صلاح الدين” الجيوش إلى “دمشق” لمحاربة الفرنج إلى أن عاد لـ”مِصر”سنة 581هـ (1184م).
قضَّى “صلاح الدين” في “مصر” قرابة العام، ثم توجه إلى “دمشق” حيث بدأ الإعداد لغزو “الكَرَك”، فالتقى الفرنج في موقعة “حِطِّين” وقاتلهم حتى انتصر وأسر منهم الفرنج عددًا كبيرًا، وكان من بينهم البارون Renaud de Châtillon حاكم “الكَرَك” الذي قطع “صلاح الدين” رأسه بسيفه؛ وكان السبب أن البارون كان يقطع على القوافل التجارية والمسافرين طريق “الكَرَك” ويمسك بهم بظلم وعنف، فحاول معه الملوك العرب في عقد هدنة حتى يتوقف عن إلحاق الضرر بالقوافل والناس، فكان يستجيب مرة ولا يستجيب مرات عديدة، وقد بعث إليه “صلاح الدين” بالمال والهدايا لئلا يؤذي أحدًا، فبادئ الأمر أقسم البارون لرسول “صلاح الدين” أنه لن يؤذي أحدًا، بل سيقدم إلى كل المسافرين ما يحتاجونه لتيسير رِحلاتهم، وسيمنع رجاله من إلحاق الضرر بالتجار، إلا أنه حنث بوعده وحَلْفه بعد ثلاثة أيام فقط إذ اعترض طريق قافلة تِجارية كانت في طريقها إلى “دمشق”،وساقها إلى “الكَرَك”حيث أسر الرجال وسلب الأموال؛ وحين بلغ “صلاح الدين” ذٰلك الأمر، أقسم ونذر لله أن يقتُله متى ظفر به، وقد فعل.
ولما بدأ “صلاح الدين” في تحقيق الانتصارات على الفرنج وفتح مدن الساحل، بعث برسالة إلى ابنه “الملك العزيز” الذي أوكل إليه حكم “مِصر”، يخبره بالأحوال وبفتح “عكا” و”طبرية”: فذكر أنه في يوم الخميس فُتحت “طبرية”، وفي الأحد التالي تسلم المدينة وقتل حاكمها وأسر الملك وعددًا من القوات – كما ذكرنا سابقًا – كما قتل من الفرسان مئتي فارس يوم الإثنين، وفي يوم الثلاثاء تحرك صوب “عكا” فوصلها يوم الأربعاء وحاصرها، وفي يوم الخميس فتح “عكا” صلحًا، ثم فُتحت “الناصرة” و”صَفُّورِيَة” و”حَيْفا” و”الحُوْلَة” و”الطُّور”. وذكر “صلاح الدين” أيضًا في الرسالة أن عدد من قُتل وأُسر يربو على عشرين ألف إنسان. ثم فُتحت “يافا” عام 583هـ (1187م)، ومن بعدها “عسقلان”، ثم كان حصار مدينة “بيت المقدس” وسقوطها في يد “صلاح الدين” بعد حرب ذُكر في شأنها: “وكانت مدة المنازلة له ثلاثة عشر يومًا، وأيام المقاتلة سبعة أيام، جُسومًا (أجسامًا)، رمي بالمجانيق (آلات تُرْمى بها حجارةٌ ثقيلة على الأسوار فتهدِّمها) حتى خرَّبت الأسوار وحطَّمتها وحَدَرت الجدرانَ (أنزلتها منعُلو إلى سُفْل) وهدَّمتها …”.
وقد تسلم “صلاح الدين” مدينة “بيت المقدس” في شهر رجب سنة 583هـ (1187م)، وأقام بها حتى احتفل بـ”عيد الفطر”، ثم خرج لاستكمال فتوحاته لمدن الساحل فتمكن منها حتى قيل: “وفتح وملك بالأمان أكثر مما فتح بالسيف، وأوفى بعهوده ولم ينكُث بكلمة من قوله ولا غدَر. وكان فرسان الفرنج وأمراؤهم وكبارهم يخرجون من حُصونهم وقلاعهم، بأموالهم ومواشيهم ونسائهم وأولادهم، وجميع ما يملكونه من المال والخيل والبغال والجمال، والجواري والمماليك حتى الأَُسارى (الأسرى)”. ثم عاد “صلاح الدين” إلى “دمشق”سنة 584هـ (1188م)وأقام بها مدة قليلة، ثم خرج على حصن الأكراد وحاصره شهرين، لٰكنه لم يقوَعليه. ثم اتجه “صلاح الدين” إلى “أنطاكية” ففتح “اللاذقية” وعددًا من مدن “الشام” وقُراه. و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ