تحدثت مقالة سابقة عن محاولة السلطان “صلاح الدين الأيوبيّ” استعادة مدينة “صُور”، وعدم تمكنه منها، كما تحدثت عن استعادة الفرنج مدينة “عكا” بقيادة “فيليب الثاني أُغسطس” ملك فرنسا و “ريتشارد قلب الأسد” ملك إنجلترا، وتعرُّض “عسقلان” و “قلعة الرَّمْلة” و “قلعة المطرون” للإخراب من قبل “صلاح الدين”، ووصول أخبار إليه عن رغبة الفرنج في الصلح. وبالفعل عُقد الصلح سنة 588هـ (1192م)، وسط ارتياح الناس وسعادتهم جميعًا. وهٰكذا صارت هدنة لثلاث سنوات وثمانية أشهر، تظل بموجبها “القدس” في أيدي المسلمين مع السماح للمَسيحيين بالحَج إليها. وآلت الأمور إلى الأمن والسلام، فيذكر المؤرخ “ابن تَغْري”: “وأمِن الناس، وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وجاءوا هم أيضًا إلى بلاد المسلمين، وحُملت البضائع والمتاجر إلى البلاد”.
ومع الصلح سار “صلاح الدين” إلى “بيت المقدس” ليتفقد أحوالها، فاهتم بأمورها وقضَّى بها شهررمضان، ثم تفقد أحوال القلاع، ومن بعدها دخل “دمشق” التي تحمل لديه محبة خاصة فيؤثر الإقامة بها عن سائر البلدان، كما كان فيها أولاده: الملك “الأفضل”، والملك “الظاهر”، والملك “الظافر” وأولاده الصغار، ليقضِّي بينهم قرابة العام. وسنة589هـ (1193م)، في منتصف شهر صفر، مرِض السلطان “صلاح الدين” بالحمى الصفراوية، وأصابه أرق فلم ينَل حظه من نوم الليل إلا قليلاً؛ ثم بدأ يتزايد المرض ويشتد به حتى وهَن جدًّا؛ ويذكر “ابن شداد” في سيرة “صلاح الدين”: “ولما كان (اليوم) التاسع (من بَدء مرض “صلاح الدين”)، حدثت عليه غشية (غيبوبة)، وامتنع من تناول المشروب … وغَشِيَ (غطَّى وحَوَى) الناسَ من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته … ولما كان العاشر من مرضه، حُقن دفعتين (مرتين)، وحصل من الحَقن راحة، وحصل بعض خفة (خفت وطأة المرض قليلاً)، وتناول من ماء الشعير مقدارًا صالحًا، وفرِح الناس فرحًا شديدًا … “. لٰكن في اليوم التالي، ساءت أحوال السلطان “صلاح الدين” الصحية حتى حار في أمره الأطباء. وفي تلك الأثناء، أسرع الملك “الأفضل” في جعل الأمراء يحلفون لأبيه السلطان “صلاح الدين” أثناء حياته، ثم له (للأفضل) بعد وفاة السلطان – وقد ذُكر أنه لم يحضر أحد من الأمراء المِصريين. وقد تضمن نص القَسَم: “إني من وقتي هٰذا صفيت نيتي، وأخلصت طويتي للملك الناصر مدة حياته، وإني لا أزال باذلاً جهدي في الذَّبّ (الذَّود) عن دولته بنفسي ومالي، وسيفي ورجالي، ممتثلاً أمره، واقفًا عند مَراضيه (كل ما يُرضيه)، ثم من بعده لولده «الأفضل عليّ» ووريثه. وواللهِ، إنني في طاعته، وأذُبّ (أذود) عن دولته وبلاده بنفسي ومالي وسيفي ورجالي، وأمتثل أمره ونهيه، وباطني وظاهري في ذٰلك سواء، والله على ما أقول وكيل”. تُوفي السلطان “صلاح الدين” فجر الأربعاء سنة 1193م، بعد أن اشتد عليه المرض؛ ويذكر المؤرخون أن الناس حزِنوا عليه حزنًا شديدًا وبكَوه، وقيل فيه: “ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام”.
وقد قيل إنه حين فُتحت خِزانته الشخصية، لم يكُن فيها إلا قليل من المال؛ إذ وُجد بها: سبعة وأربعون درهمًا ناصريًّا، ودينارواحد ذهبًا. وقد كان للسلطان “صلاح الدين” ستة عشر ابنًا وابنة واحدة، وكانت أيام حكمه اثنين وعشرين عامًا. ودُفن “صلاح الدين الأيوبيّ” في “قلعة دمشق”، إلى أن اشترى ابنه “الأفضل” أحد المنازل في حي “الكَلَّاسة” قرب الجامع الأُمَويّ، وبنى بهقبة، ثم نُقل رُفات “صلاح الدين” إليهافي سنة 592هـ (1196م).
قسَّم “صلاح الدين” دولته أثناء حياته بين أولاده وعائلته، فكان حكم “دمشق” لابنه “الأفضل عليّ” أكبر أبنائه، وحكم “مِصر” ابنه “العزيز عثمان”، وصارت “حلب” تحتحكم ابنه “الظاهر غازي”؛ أما “الكَرَك” و”الشَّوْبَك” و”جعبر” وغيرها من مدن “الفرات” فكانت لأخيه “العادل”، في حين حكم “حَماة” ابن أخيه “مُحمد بن تقيّ الدين”، وصارت “حمص” و “الرحبة” وبلاد أخرى تحت سلطنة حفيد عمه “أسد الدين شِيركُوه”، و”اليمن “تحت حكم السلطان “ظهير الدين سيف الإسلام طُغْتِكِين بن أيوب” أخي “صلاح الدين”،و… والحديثفي “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ