تحدثت المقالة السابقة عن السلطان “صلاح الدين الأيوبيّ” وصُلحه مع الفرنجة، ثم سيره إلى “بيت المقدس”، وبعدئذ دخوله “دمِشق” ومكوثه بها قرابة العام إلى أن مرِضبالحمى الصفراوية،وساءت أحواله الصحية حتى حار في أمره الأطباء.
تُوفي السلطان “صلاح الدين” سنة 589هـ (1193م)، وحزِن عليه الناس حزنًا شديدًا وبكَوه. وكان الأب البطريركالمعاصرلحكم “صلاح الدين الأيوبيّ” هو البابا “مرقس ابن زرعة” الثالث والسبعين في بطاركة الإسكندرية، الذي تنيح سنة 1189م بعد أن جلس على الكرسيّ المَرقسي قرابة 22 عامًا ونصف العام،ليخلُفه “البابا يوحنا السادس”.
“البابا يوحنا السادس” (1189-1216م)
الرابع والسبعون في بطاركة الإسكندرية. كان علمانيًّا، بتولاً، يعمل بالتجارة، ويُدعى “أبا المجد”. اشتُهر بين الناس بفضائل كثيرة، وبعلمه الغزيرفي الكتب المقدسة، وقيل في أمره: “كاملاً في جسده وقامته، بشوش الوجه، حسَن الخلق، ليِّن الكلام، طيب المُحاضَرة (المُجالَسة للناس)، ملازم أوقات الصلوات، كثير الصدقات،ذا مال وإيسار (غِنى وسَعة) من صباه؛ صار ذٰلك إليه من أبيه وأجداده. وكان له دار وكالة بمدينة «مصر» يتَّجر فيها ويبيع ويشتري … وكان كاملاً في دينه ودنياه، وغير محتاج إلى شيء من أمور الدنيا”، كما ذكر عنه المؤرخ أنبا “ساويرس ابن المقفع” أنه كان يتصدق كثيرًا على المحتاجين، ويفرح بإضافة الغرباء، ويجتهد في افتقاد المرضى والمحبوسين، ويكثر من الصلوات،كثير المودة لكل أحد،ويفعل الخير مع كل أحد حتى ظهر أمره واشتُهر ذكره. ولذا،بعد نياحة البابا “مرقس ابن زرعة”، اتجهت الآراءواتفقت جميعها من “مِصر” و”الإسكندرية” على سيامة “أبي المجد” بطريركًا ـومما قيلفي شأنه إنه وزع كل أمواله التي تقدر بسبعة آلاف دينار على الفقراء والكنائس ـ وكان ذٰلك في أيام حكم السلطان “صلاح الدين” سنة585هـ (1189م) أي قبل وفاته بأربع سنوات.
وفي أيام حَبرية “البابا يوحنا السادس” تُوفي مِطران الحبشة، فعين مكانه “كيلوس” أسقف مدينة “فوه” ـالتي قُتل شعبها جميعًا بسبب الحروب مع الفرنج ـ بعد أن رقاه إلى رتبة مِطران. وسافر المِطران الجديد إلى الحبشة حيث قوبل باحتفاء عظيم من الملك والشعب. إلا أنه سرعان ما ابتعد عن حياة الزهد الرهبانية وعاش عيشة الترف، وكان يخدمه عشرة قساوسة بصفة تلاميذ له. ويوما ما، حدث أن فُقدت آنية ذهب غالية جدًّا من كنيسة “أكسيوم” بالعاصمة، فاشتبه المِطران في أمين خزائن الكنيسة الذي كان أحد تلاميذه،فأمر بضربه حتى سلَّمالروح؛ فحينئذ ثار أهل القسيس؛وهرب المِطران إلى “مِصر”. وعند حضوره إلى “مصر” اندهش “البابا يوحنا السادس” وسأله عن سبب حضوره إلى “مِصر”، فأجابه المِطران أن شقيق الملكة اغتصب الرئاسة منه لأنه لا يوافقهعلى بعض أمور لا يقبلها الدين. لٰكن الأب البطريرك أرسل مندوبًا منه إلى ملك الحبشة يستعلم فيها عن أمور المملكة، وحجز المِطران لديه إلى حين عودة المندوب. عاد المندوب بعد عام، ومعه نتائج التحقيقات، يصطحب بعض كبار مسؤولي المملكة، وقسيس الملك الخاص، ليشهدوا بفعل المِطران وذنبه،وطلب ملك الحبشة من “البابا يوحنا السادس” أن يرسل مِطرانًا غيره، باعثًافي الوقت نفسه إلى سلطان “مِصر” ـ الملك العادل آنذاك ـبهدية ثمينة، وبرسالة يطلب فيها منه أن يأذن للأب البطريك بتعيين مطران آخر. وإذ كان الملك غائبًا في “سوريا”، وابنه “الكامل” قائمًا مكانه بأمور الحكم، قبِل الملك “الكامل” هدية ملك الحبشة،وأذِن للبابا البطريرك في أن يرسل مِطرانًا آخر إلى بلاد الحبشة. وقد عقد الأب البطريرك مجمعًا من الأساقفة للنظر في أمر المِطران،واستدعاه وأطلعه على التهم المنسوبة إليه، مقدمًا إليه الفرصة للدفاع عن نفسه، فلم يجد منه ما يبرر به فعلته؛ فحكم المجمع بتجريده من رتبته.و… والحديثفي “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ