الوطن “مِصر” دائمًا وأبدًا في قلب كل مِصريّ عاش على ترابه، وبوجه خاص هو جزء لا يتجزأ من قلب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية؛ فتصلي: من أجل كل قادته وشعبه، مداخله ومخارجه، أرضه ونهره، زروعه وثماره، وأيضًا سلامه ورخائه. وقد ظهرت محبة الوطن على مر تاريخ الكنيسة وآبائها البطاركة، سارية في دمائهم سريانًا. فلا ينسى التاريخ رفض “البابا بطرس الجاولي” حماية قيصر روسيا لمَسيحيي “مِصر”، قائلاً: “أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت، أما نحن الأقباط فنعيش تحت حماية ملك لا ـ ولن ـ يموت إلى الأبد”، وحين شكره “مُحمد علي” حاكم “مِصر”، أجابه: “لا تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاده”، كما لا ينسى تلبية “البابا كيرلس الرابع” لطلب “سعيد باشا” بسفره بلاد الحبشة لإزالة خلاف بين حكومتها والحكومة المِصرية وحله المشكلة، ولا ينسى رفض “البابا كيرلس الخامس” عرض المندوب السامي البريطانيّ بحماية أقباط “مِصر”، قائلاً: “لن نطلب حماية نحن الأقباط ـ إلا من الله ومن عرش مِصر”.
واليوم، ونحن بين ذكرى تجليس المتنيح “البابا شنوده الثالث” في 14/11/1971م وتذكار جلوس قداسة “البابا تواضروس الثاني” في 18/11/2012م، أجد “مِصر” الوطن قابعًا في قلب كل منهما، أنشودةً وطنية تُحفر على صفحات التاريخ.
كانت “مِصر” الوطن الذي يعيش في أعماق قلب المتنيح “البابا شنوده الثالث” حتى قال: “مِصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا.”. ويذكر التاريخ لقداسته كثيرًا من المواقف التي شُغل فيها بقضايا الوطن وهمومه؛ فقدم عددًا من المحاضرات في المراحل الحرجة التي تعرض لها وطنه، منها:”إسرائيل في رأي المسيحية” بنقابة الصحفيين سنة 1966م، و “المَسيحية وإسرائيل” سنة 1971م، و”القدس مدينة السلام” بجامعة الدول العربية سنة 1995م. كذٰلك كتب “البابا شنوده الثالث” مقالات وطنية عن القوات المسلحة في حربها مع المستعمر، منها: “إننا ندافع عن أراضينا”، و”دفاعًا عن الحق”، و”أرض سيناء مقبرة للإسرائيليين”، و”الصهاينة أعداء المَسيحية”. ولا يُنسى لقداسته أنه زار جبهة القتال عدة مرات قبل حرب أكتوبر وبعدها، وقدَّم دعمًا معنويًّا وسياسيًّا أثناءها. كذٰلك دعا إلى مؤتمر شعبيّ لتكريم عدد من ضباط حرب أكتوبر وجنودها من المسلمين، وشارك في جلسة تكريم أبطالها بمجلس الشعب، وزار جرحاها بالمستشفيات.
واهتم “البابا شنوده الثالث” بتأسيس الكنائس القبطية في بلاد المهجر وبزيارتها من أجل ربط المِصريين بوطنهم وحثهم على دعم البلاد بكل السبل والوسائل. وأعلن قداسته مرارًا كثيرة أنه يرفض أيّ تدخلات أجنبية تدعو إلى حماية أقباط “مِصر”، كقوله بالمؤتمر الصحفيّ العالميّ سنة 1992م: “إننا بصفة رسمية لا نقبل إطلاقًا أن تتدخل دولة أجنبية في أمورنا الداخلية، والأقباط في «مِصر» لا يقبلون أبدًا التدخل الأجنبيّ، وإن تدخلت دولة من تلقاء نفسها فسوف نعتذر عن تدخلها”.
وتتجسد نبضات محبة “البابا شنوده الثالث” لـ”مِصر” في شعرهأيضًا، حين أنشد:
جَعَلْتُكِ يَا مِصْرُ فِي مُهْجَتِي وَأَهْوَاكِ يَا مِصْرُ عَمْقَ ٱلْهَوَى
إِذَا غِبْتُ عَنْكِ وَلَوْ فَتْـــــــرَةً أَذُوبُ حَنِينًا أُقَاسِي ٱلنَّـــــــوَى
ثم كانت خفقات قلب قداسة “البابا تواضروس الثاني” ـ أطال الله عمره ـ مدوِّيةً بحب الوطن حين قال: “وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن”، وذٰلك بعد أن تعرضت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لهجمات شرسة من حرق كنائس عدة، عقب فض اعتصامي “رابعة” و”النهضة”، مؤكدًا قداسته أن الكنيسة جزء من الوطن، والوطن دائمًا في قلبها. فقد أكد قداسته، خلال لقاءاته خارج الوطن، أن الأمور في “مِصر” تتقدم وتتحسن. وفي لقاء قداسته وفدًا من الكونجرس الأمريكيّ قال: “حرق الكنائس جزء من هٰذا الثمن نقدمه لبلادنا بصبر وحب”، كما قال: “لو حرقوا الكنائس هنصلي مع المسلمين في المساجد، ولو حرقوا المساجد هنصلي إحنا الاتنين في الشوارع”!
كذٰلك طالب قداسة “البابا تواضروس الثاني” كنائس المهجر بأن تظهر حقيقة “ثورة 30 يونيو” سنة 2013م: أنها “ثورة شعب” ساندها جيشها العظيم. ولا يُنسى لقداسته حفاظه على النسيج الوطنيّ الواحد في عدد من المواقف الصعبة كتفجير “الكنيسة البطرسية”، وتفجيري “الكاتدرائية المَرقسية بالإسكندرية” و “كاتدرائية الشهيد مار جرجس بطنطا”، حيث أكد قداسته وقوف الكنيسة المِصرية إلى جانب الدولة وجيشها ورجال أمنها في محاربة ما تتعرض له البلاد من إرهاب يسعى لهدمها.
أما درة ما لا يُنسى لقداسة “البابا تواضروس الثاني” من مواقف وطنية، فكانت في موقفه من قضية “القدس”، حين أصدرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بيانًا سنة 2017م، يرفض كلاًّ من إعلان “القدس” عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى “القدس”، في تضامن كامل مع أبناء الوطن؛ فأكدت الكنيسة أن هٰذين القرارين لن يؤديا إلا إلى زعزعة السلام بالشرق الأوسط والعالم؛ وقد اعتذرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن عدم استقبال نائب الرئيس الأمريكيّ ـ”مايك بنس” آنذاك ـ خلال زيارته “مِصر”.
أما في مسيرة الوطن نحو “الجمهورية الجديدة” بكل ما تحمل من مستقبل مشرق للبلاد، فإن قداسة “البابا تواضروس الثاني” دائمًا ما يعلن موقف الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بالتأييد الكامل لمشروعات النمو والتقدم بالبلاد نحو مستقبل أفضل للمِصريين جميعًا، قائلاً: “جميعنا ـ المِصريين ـ نعمل على بناء مِصر الحديثة.” و… والحديثفي “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ