تحتفل الكنيسة في الشرق غدًا “الخميس” بـ”فصح يونان” عقب صومٍ ثلاثة أيام تنتهي اليوم والذي يُعرف بـ”صوم أهل نينوى” أو “صوم يونان النبيّ”. وكلمة “فصح” هي لفظة عبرانية معناها “عبور”: حيث عبر “يونان النبيّ” من جوف الحوت الذي ابتلعه – الذي يمثل الموت – إلى خارجه أي الحياة – قبل أن يتجه إلى مدينة “نينوى”، كما عبر أهل نينوى الذين عاشوا في الخطيئة من حالة الشر والفساد إلى حياة التوبة والعودة إلى الله، بمناداة “يونان النبيّ” إليهم بالتوبة. وقد دخل هٰذا الصوم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عهد البابا أبرآم السريانيّ (المعروف بـ”ابن زرعة”)، الثاني والستين فيبطاركة الكرازة المرقسية(976-979م).ويسبق صوم نينوى الصوم الكبير بأسبوعين، وهو دعوة إلى العودة لله بالتوبة.
النبيّ الهارب
“يونان النبيّ”، أحد أنبياء مملكة إسرائيل، هو “يونان بن أَمِتّاي” من سِبط “زَبُولُون”أحد أسباط بني إسرائيل الاثني عشَر. كان من مدينة “جَتّ حافّر” التي تبعد ثلاثة أميال عن مدينة “الناصرة”. واسم “يونان” هو الصيغة السريانية والعربية للاسم العبري “يونة”، ومعناه “حمامة”. وقد تنبأ “يونان” فيما بين 735-793 ق.م، معاصرًا الملك “يَرُبْعام الثاني”؛ ويذكر سفر “الملوك الثاني” أنه قد تنبأ عن “يَرُبْعام بن يُوآش” ملك إسرائيل بأنه من سيرُد: “تُخُم إسرائيل من مدخل حَمَاة إلى بحر العَرَبة حسب كلام الرب إلٰه إسرائيل الذي تكلم به عن يد عبده يونان بن أَمِتَاي النبيَ الذي من جَتّ حَافَر.“. وقد عاش “يونان النبيّ” قرابة مئة عام.
أوحى الله إلى “يونان النبيّ” أن يذهب إلى مدينة “نينوى” الواقعة نصف الميل تقريبًا إلى الشرق من “نهر دِجْلة” بالعراق، وكانت عاصمة الدولة الأشورية التي تُعد أقوى القوى العالمية وأعظمها آنذاك، مناديًا أهلها ومنذرهم بالهلاك، في رسالة تتكون من خمس كلمات: “بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى”! وذٰلك بسبب ما اقترفوه من شرور عظيمة.
وبدل أن يطيع “اليونان النبيّ” الله ويحمل رسالته قرر الهرب من وجهه! فذهب إلى “يافا”، وركب سفينة إلى مدينة “تَرشيش”، متصورًا أن هربه قد أعفاه من أداء المسؤولية التي وُضعت على عاتقه!
العودة من الهرب
في الطريق إلى “تَرشيش” تعرضت السفينة للغرق، واكتُشف أن الأمر بسبب “يونان”! فطُرح “يونان” في البحر، وأعد الله حوتًا ابتلعه، وظل فيه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ حيث كان فرصة للقاء مع النفس واختلاء بالله. ففي جوف الحوت، وجد “يونان النبيّ” نفسه في مواجهة أمام ذاته، وفي هدوء بدأ في إدراك إلى ما وصل إليه من حال بسبب هروبه ورفضه طاعة وصية الله؛ وهنا بدأ في حديث روحيّ مع الله، رافعًا إليه صلاة عميقة، قال فيها: “دعوتُ من ضيقي الرب، فاستجابني. صرختُ من جوف الهاوية، فسمعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر. جازت فوقي جميع تياراتك ولُجَجك. فقلتُ: قد طُردتُ من أمام عينيك. ولٰكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك … حين أَعيَت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب،فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك …”. ثم قذفه الحوت إلى البر قرب “نينوى”؛ فدخل إليها معلنًا إنذارات الله إليهم بسبب خطاياهم وشرورهم؛ فما كان منهم إلا أن سارعوا جميعًا – من الملك حتى الطفل الصغير – بتوبة عظيمة، في صوم وصلوات وتذلل وبكاء، حتى أشفق الله عليهم وقبِل توبتهم ورفع غضبه عنهم، فنالوا الخلاص والنجاة.
رحمة الله
إن قصة “يونان النبيّ” لتعبّر عن رحمة الله ومحبته لجميع البشر في كل زمان ومكان، ففيها نرى رحمة الله مع “يونان النبيّ”، ومع أهل “نينوى” التي كشفها لـ”يونان” قائلاً: “أفلا أُشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتَي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شِمالهم، وبهائم كثيرة؟”.
وبقصة “نينوى” و”يونان” أتذكر قصة فنان: صمم نموذجًا لباب من ذهب، وأسماه “باب الرحمة”، ووضعه في أحد المعارض، وحضرت الجماهير إلى المعرض لمشاهدته ومناقشة تصميماته، فكان من بينهم أحد النجارين المَهَرة. وعند مشاهدة النجار للباب، قال للفنان: أظن أن الباب عريض جدًّا، ونحن لا نستخدم تلك المقاييس. أجاب الفنان: أنا أعلم هٰذا، لٰكن«باب الرحمة» ليس بابًا عاديًّا كسائر الأبواب؛ فهو عريض كي يسمح بدخول كل البشر الذين يطلبون العبور منه. ابتسم النجار، وقال بسخرية: لٰكنه ليس هو الخطأ الوحيد في تصميم الباب؛ فالباب منخفض لا يسمح بدخول إنسان منه بسهولة. قال الفنان: لديك كل الحق، لٰكن «باب الرحمة» لا يدخله أيّ إنسان، فهو مصمم للمتواضعين المنحنين في اتضاع دون كبرياء.”. صمت النجار قليلاً، ثم قال: “ولمَ لا يوجد مِفتاح للباب لفتحه وإغلاقه؟! أجاب الفنان: “لأن «باب الرحمة» دائمًا مفتوح أمام كل إنسان يرغب دخوله. قال النجار في دهشة: وإذا كان لايحتاج إلى مِفتاح، فلمَ وضعت تلك الأقفال والترابيس من الداخل؟! رد عليه الفنان: “لأنه سيأتي اليوم الذي يُغلَق فيه أمام كل من يرفض الرحمة عند انتهاء العمر”.
كل عام وجميعكم بخير، و… والحديث في “مصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ