تحدثت مقالات سابقة عن “البابا يوحنا السادس”، الذي تعرض لكثير من الحروب وأنقذه الله منها، والذي شهد عصره عددًا من الحروب والنزاعات، إلى جانب أحداث جساملا مرت بـ”مِصر” كقدوم حملة الفرنج على “دِمياط”، ومن ناحية “رشيد” ومدينة “فُوَّه”، وهبوط مياه النيل، ونكبة الغلاء، وجائحة الوباء الذي أثر بدرجة بالغة في الشعب. إلا أن عددًا من الأغنياء آنذاك – مسلمين ومسيحيين – تصدقوا على الفقراء كلٌّ حسب طاقته، إلى أن رحِم الله شعبه. تنيح “البابا يوحنا السادس” سنة 1216م بعد رئاسة استمرت 27 عامًا؛ وقد حزِن عليه المِصريون جميعًا من مسلمين وأقباط. وظل الكرسيّ المَرقسيّ خاليًا من بعد نياحته قرابة 19 عامًا، إلى أن سِيم “البابا كيرلس الثالث” (ابن لُقلُق) ليصير الخامس والسبعين في بطاركة الإسكندرية.
وقد كانت حَبرية “البابا يوحنا السادس” أيام “السلطان صلاح الدين” (المُتَوفَّى سنة 589هـ/1193م)، الذي قسم دولته أثناء حياته على أولاده وأفراد عائلته: فكانت “مِصر” من نصيب ابنه “العزيز عثمان”. وقد وقعت الوَحشة وثارت أحداث بين كل من ابنَي “صلاح الدين”: “الأفضل” و “العزيز” ما شجع الفرنج على محاصرة حصن “الجُبَيل”. وقد تحرك “العزيز” من «مِصر» مرتين لمحاربة “الأفضل”، لٰكنه عاد إلى “مِصر”. وقد حرَّض “الأسدية” (أتباع “أسد الدين شِيرِكوه”) “الملك العادل” عم “العزيز”، على التوجه إلى “مِصر” لأخذها، فنزل “العادل” و “الأفضل” بـ”بلبيس”، ثم طلب الملك “العادل” لقاء “القاضي الفاضل”؛ فسعى القاضيبين الملك “العادل” والملك “العزيز” وأصلح ما فسد من الأمور بينهما. ويُذكر أن “العادل” أقام بـ”مِصر” أربعة أشهر اتفق فيها مع القاضي “الفاضل” على رد أملاك “الأسدية” إليهم، وطلب إلى “الأفضل” أن يصالح أخاه “العزيز”، ففعل وعاد إلى دمشق.
ثم كان من الأخوين “العادل” و”العزيز” أن تحركا مرة ثالثة صوب “دمشق” لمقاتلة “الأفضل”، بعد أن استفحل أمر وزيره “الجَزَرِيّ” وأتي بأقبح الأفعال و”الأفضل” لا يرد له أمرًا ولا يخالفه؛ ما دعا أعيان الدولة أن يكاتبوا “العادل” يشكونه حال بلادهم؛ فأرسل إلى “الأفضل”: “ارفع يد هٰذا الأحمق، السيئ التدبير، القليل التوفيق”؛ فلم يشَأ “الأفضل”! فتحرك “العادل” و”العزيز” صوب “دمشق” ودخلاها دون حرب، وقد ذكر “ابن تغري” أن “الأفضل” دخل إلى عمه “العادل” وأخيه “العزيز”، “وبكى بكاءً شديدًا، فأمره «العزيز» بالانتقال من «دمشق» إلى «صَرْخَد»، فأخرج وزيره «الجَزَرِيّ» في الليل في جملة الصناديق خوفًا عليه من القتل، فأخذ أمولاً عظيمة وهرب إلى بلاده.”. وأقام “العزيز” مدة بـ”دمشق”، بنى خلالها قبة عند قبر والده “صلاح الدين” ومدرسة إلى جانبها، وفي سنة 592هـ (1196م) نقل والده إلى “الكَلّاسة”. وقد ذكر المؤرخون أن “العزيز” وضع “العادل” نائبًا له في “دمشق”، ثم وهبها لابن “العادل” “المعظم عيسى” سنة 594هـ (1198م)، ثم عاد إلى “مِصر”.
وهٰكذا استمر حكم “العزيز” بـ”مِصر” وقيل: “واستقامت الأمور في أيامه، وعدَل في الرعية، وعف عن أموالها”، كما قيل عن “العزيز”: “وكان ملكًا مباركًا، كثير الخير، واسع الكرم، محسنًا إلى الناس، معتقدًا في أرباب الخير والصلاح”، وأيضًا: “ولما ملك، أحسن السيرة، وأطلق جميع ما يؤخذ من التجار وغيرهم من «المكوس» (الضرائب) على اسم الزكاة. وجهز إلى «بيت المقدس» عشرة آلاف دينار لتُصرف في مصالحه، وأكرم أصحاب أبيه”، كذٰلك اتصف بالشجاعة والعدل والإنصاف.
تُوُفِّي “العزيز” سنة 595هـ (1198م)، بعد أن توجه إلى “الفيوم” للصيد حيث تعرض لحادث، فحُمل إلى “القاهرة” وفارق الحياة بها عن عمر 27 عامًا وأشهرًا (وقيل 28). وقد أوصى “العزيز” لولده “ناصر الدين مُحمد” أمر حكم “مِصر”. و…والحديث في “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ