يعود اسم مِصر إلى «مِصْرايِم» بن حام، أحد أبناء نوح النبى الثلاثة: سام وحام ويافَث، (وبنو حام: كُوش ومِصْرايِم وفُوط وكَنعان)، ولهذا يُعد مِصْرايِم اسمًا عبريًا، ويعتقد البعض أنه مشتق من اللغة السامية، وقد يعنى: البلد أو الممتدة، وقد يعنى أيضا الحصينة.
أمّا فى اللغة الآشورية فأُطلق على مِصر اسم «مِشر»، الذى يعنى «المكنون أو المُحصَّن»؛ وذلك لاعتبار البعض أن مِصر بفضل طبيعتها هى محمية من جميع الجهات: ففى الشمال يوجد البحر، ومن جهة الشرق تحميها الصحراء الشرقية، ومن الغرب تحميها الصحراء الغربية، وفى الجنوب صخور كبيرة تعوق الإبحار فى النيل، وقد يكون هذا سبب تسمية مِصر لدى المِصريين بـ«المحروسة».
أمّا المصريون القدماء فكانوا يُطلقون على بلادهم عدة أسماء منها: «كِيمى» ويعنى «الأرض السوداء» نسبة إلى الأرض السوداء الخَصِبة نتاج نهر النيل، وأطلقوا أيضًا عليها اسم «توا» أى «الأرضيون»؛ إشارة إلى «مصر العليا ومصر السفلى»، أمّا اسم البلاد فى اللغة العربية فهو قريب من اسمها فى اللغة العبرية «مِصرايِم»، الذى هو فى صيغة المثنى، وعلى الأرجح يعود إلى مِصر العليا ومِصر السفلى.
ويعتقد البعض أن اسم مِصر egypt فى اللغات الأجنبية مشتق على الأرجح من اسم «مِمفيس» فى اللغة المصرية القديمة، وهو «ها كا بتاح» ومعناه «بَيت روح بتاح»، وأصبح فى اليونانية إيجيبتُس aigyptos، ومنها جاءت كلمة إيجيبت egypt أو aigypte، التى تُعرف بها مِصر فى كل لغات العالم تقريبًا، وتحورت فى اللغة العربية من إيجبت إلى إيقِبط (ق بدلاً من ج) ثم قِبط.
وهكذا ترجع فى اللغات الحديثة كلمتا «إيجيبت» و«قبط» إلى أصل واحد، ومعنى ومدلول واحد، الذى يشار به إلى المصريين الأصليين فى وادى النيل.
مصر الحضارة
تُعد الحضارة المصرية القديمة من أقدم الحضارات على وجه الأرض، وقد كان لوجود نهر النيل أثر كبير؛ حيث إنه ساعد المصرى القديم على الاستقرار، وزراعة الأرض، وتربية الماشية منذ آلاف السنين، ثم تطور الإنسان المصرى القديم سريعًا ليبدأ صناعات بسيطة، ثم تكونت مجتمعات صغيرة على ضفاف النيل، وهو ما أدى إلى التطور المجتمعى، وبدأ تبادل تجارى بين هذه المجتمعات، فسبقت مصر بذلك كل بلاد العالم، ثم بدأ التبادل التجارى مع جيرانها.
كذلك برع المِصريون القدماء فى العلم؛ فقد نشأت فيها الكتابة بالطريقة الهيروغليفية، وماثلها فى ذلك سكان دجلة والفرات، الذين بدأوا الكتابة بطريقة الخط المسمارى، وقد أدى هذا إلى التبادل التجارى والتعامل الحضارى بين المجتمعين، مما دفع بعجلة تطور الإنسانية بوجه عام.
كان لابتكار الكتابة فى مصر أثر هائل فى تطور الحياة سريعًا فى البلاد، وكان المصرى القديم محبًا للكتابة؛ حتى إن صورة الكاتب المصرى تُعد من الصور الشهيرة فى الفن المصرى القديم.
وإذا حاولنا تتبع الكتابة المصرية القديمة وقراءة التاريخ، فنجد أن المصريين القدماء كتبوا عن كل أحداث حياتهم فى جميع الجوانب؛ فنجد ما كُتب عن تاريخ الحكام والملوك، والمعتقدات الدينية، وأيضًا ما وصلوا إليه من علم، خاصة فى الطب والهندسة والحساب، كذلك نجد تمجيد الملوك والحروب، التى خاضوها ومعاهدات السلام مع البلاد المجاورة؛ وأيضًا الكتابات فى الأخلاق والحكمة، والمخطوطات الدينية، بل إنهم سجلوا أمورهم الشخصية من رسائل بين أفراد العائلة أو بين الأصدقاء.
وبالإضافة إلى تعليم العالم الكتابة قدَّمت مصر إلى العالم آثارًا ومعالم صارت محط أنظاره، الذى اعتبرها تاريخًا لحضارة البشرية؛ ومنها: الأهرام، وأبوالهول، والآثار والمعابد القديمة فى منف وطيبة والكرنك ووادى الملوك، واهتم العالم اهتمامًا شديدًا بعرض أجزاء من هذه الآثار فى أكبر متاحف العالم. كذلك درسوا هذه الآثار فيما يُعرف بـ«عِلم المِصريات».
مكانة مِصر فى الأديان
مصر هى بلد الجمال منذ فجر التاريخ، لقد وهبها الله جمالاً طبيعيًا قلّما وجد فى البلاد الأخرى، فقد ذُكر عن مِصر فى الكتاب أنها من أجمل بلدان العالم، بل كانت تُشبَّه بجنة الله، وعندما كانوا يريدون وصف جمال بلد ما كانوا يقارنونه بجمال مصر؛ فحينما أراد لوط أن يختار مكانًا لسكناه بعد انفصاله عن إبراهيم، لأن الأرض لم تعُد تحتمل أملاكهما معًا ـ اختار لوط سَدوم وعَمورة، بسبب جمالهما، الذى وُصف بأنه كجنة الرب كأرض مصر فقيل: «رفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن أن جميعها سَقْى… كجنة الرب، كأرض مِصر».
مِصر أيضًا هى بلد الخيرات، لذا كان دائمًا حُلم الأباطرة العظماء ـ مِثل الحُلم الإغريقى القديم ـ هو الاستيلاء على مِصر، الذى تحقق على يد الإسكندر الأكبر.
وجاء فى سِفر التكوين أنه حينما نزل يعقوب وبنوه إلى أرض مِصر قال لهم يوسف: «خذوا أباكم وبيوتكم وتعالَوا إلىّ، فأُعطيكم خيرات أرض مِصر وتأكلوا دسم الأرض».
وفى الوقت الذى عانت فيه الأرض كلها من مجاعة شديدة، كانت مِصر هى الملجأ والمنقِذ، «وجاءت كل الأرض إلى مِصر، إلى يوسف لتشترى قمحًا، لأن الجوع كان شديدًا فى كل الأرض».
مِصر أرض الحكمة
عُرفت مِصر منذ القِدم فى العالم بأسره بأنها أرض الحكمة؛ فموسى النبى يقول عنه الكتاب: «فتهذب موسى بكل حكمة المِصريين، وكان مقتدرًا فى الأقوال والأعمال»، وعندما وصف الكتابُ حكمةَ الملك سليمان قال: «وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المَشرق وكل حكمة مِصر».
مِصر الأرض التى بارك الله شعبه فيها
ذكر الكتاب عن الله أنه بارك شعبه فى مصر فقال: ها يبارك، رب الجنود: «مبارك شعبى مصر..».
ويقول القرآن عن مصر فى سورة يوسف آية 99 ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ﴾، وفى الأحاديث النبوية قال النبى: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًا فذلك الجند خير أجناد الأرض»، فلما سئل لمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنهم فى رباط إلى يوم القيامة.
مِصر ورجال الله
كانت مِصر الملجأ والملاذ، الذى هرب إليه العديد من رجال الله، فكانت هى الأمان لهم، أو هى المكان الذى أرسلهم الله إليه للاحتماء فيها.
فبعد ما طلب الله من إبراهيم أن يترك أهله وعشيرته، وأن يذهب إلى أرض كَنعان، حدث جوع شديد فى الأرض، فلجأ إبراهيم إلى أرض مِصر: «وحدث جوع فى الأرض، فانحدر أبرام إلى مِصر ليتغرب هناك، لأن الجوع فى الأرض كان شديدًا».
أيضًا يوسف الصديق بِيع إلى رجل مصرى، وقد سمح الله بهذا ليُنقذ مِصر والعالم من جراء مجاعة شديدة ستحِل بالأرض: «وأمّا يوسف فأُنزِل إلى مِصر، واشتراه فوطيفار، خَصِى فرعَون، رئيسُ الشُّرَط، رجلٌ مِصرى من يدِ الإسماعيليين، الذين أنزلوه إلى هناك». فلم تكُن أرض مِصر ملاذًا ليوسف، وإنما هو أُرسل من قِبل الله لأجل رسالة يقوم بإتمامها، وفى تلك الآونة يذكر الكتاب أن فرعَون رأى فيه حكمة الله فوكله على كل أرض مِصر، ثم قال فرعون ليوسف: «اُنظر، قد جعلتُكَ على كل أرض مِصر».
أيضًا نزل إلى مِصر يعقوب ومعه أبناؤه ليعيشوا فى مِصر مع يوسف ـ الذى كان فى ذلك الوقت الرجل الذى يلى فرعون مكانةً، فلا يُرفع إليه أمر إلا عن طريق يوسف ـ «وأخذوا مواشيهم ومقتناهم الذى اقتنوا فى أرض كَنعان، وجاءوا إلى مِصر. يعقوب وكل نسله معه». وعاش يعقوب فى أرض مِصر سبْع عشرة سنة، أمّا يوسف فسكن حتى مات.
والشخصية الأخرى من رجال الله التى وُلدت وعاشت فى مِصر، وتأدبت بكل حكمتهم: موسى النبى، الذى عاش فى قصر فرعَون ابنًا لابنة فرعَون مدة أربعين سنة، وهو الذى قاد شعب الله إلى أرض كَنعان عابرًا بهم البحر الأحمر.
أمّا سُلَيمان الحكيم فهو لم يعِش فى مِصر، ولكنه تزوج ابنة فرعون «وصاهر سُلَيمانُ فرعَونَ ملكَ مِصر، وأخذ بنت فرعَون، وأتى بها إلى مدينة داوود..».
أمَّا الحدث الأهم، الذى احتفلت به الكنيسة القبطية، وامتلأ العديد من كتبها بذكر تفاصيله والتعليق عليه، وأصبح موضوعًا تقليديًا فى أيقوناتها، فهو زيارة السيد المسيح وأمه القديسة مريم العذراء أرض مِصر، وتنقلهما بين ربوعها، وإقامتهما فى بعض جهاتها، وبرفقتهما القديس يوسف النجار.
والبداية يرويها إنجيل معلمنا متى، فيقول إنه حين صمم هِيرودُس، ملك اليهودية، على قتل المسيح الطفل، أوحى الله إلى يوسف أن يأخذ الصبى وأمه، ويهرب إلى مِصر فيقول: «.. إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلاً: قُم وخُذ الصبى وأمه واهرُب إلى مِصر، وكُن هناك حتى أقول لك. لأن هِيرودُس مزمِع أن يطلب الصبى ليُهلكه»، ويكون هناك إلى أن يأمره مرة ثانية بالعودة، فقام وأخذ الصبى وأمه ليلاً، وانصرف إلى مِصر، وكان هناك إلى وفاة هِيرودُس؛ وذلك كان تحقيقًا لنبوة هُوشَع النبى: «.. من مِصر دعوتُ ابنى».
ويقول التقليد إنه حين دخل السيد المسيح أرض مصر ارتجفت أوثانها، وكانت تتكسر لدى مروره، ويذكر المؤرخ بلاديوس أسقف القرن الرابع أنه ذهب بنفسه إلى الأشمونيين (بالصعيد)، ورأى هناك بيت الأوثان، حيث سقطت جميع الأوثان، التى فيه على وجوهها عندما دخل المدينة.
وقد خصصت الكنيسة هذه المناسبة بعيد فى 24 من بشنس (1 من يونيو) كل عام، وهذه الزيارة لها مسار معروف يسمى «رحلة العائلة المقدسة لمصر»، وأصبحت هذه الأماكن مزارات سياحية عالمية لمن يريد أن يتبارك منها.
إن مِصر تحمل الكثير داخلها، وهى علامة فارقة فى التاريخ، وفى الحضارات وفى الأديان، أرض الخير والبركة والمحبة والسلام.. والحديث عن مِصر لا ينتهى!