تحدثنا فى المقال السابق عن «مصر الحلوة»: فقد تكلمنا عن أصل اسم «مِصر»، وكيف وصل إلى اللغات الأجنبية باسم «EGYPT»، ثم مِصر أرض الحضارات، ومكانتها فى الأديان، وأخيرًا مِصر، التى استضافت رجال الله، واليوم نتحدث عن: «مِصر بلد التعددية».
أولاً: تعددية الحضارات:
مِصر هى بلد التعددية، فكم من حضارات قامت على أرضها، وحملتها داخل أعماق حياتها؛ لتُقدم إلى العالم الإنسان المِصرى كشخصية متفردة عميقة يعرف ويدرِك، ويقبل التنوع والتعدد، وفى الوقت نفسه يحمل داخله التميز.
سنعرض أهم الحضارات، التى أثّرت فى المجتمع المِصرى، وشخصية المِصرى، التى تميزت عبر التاريخ، وسنبدأ بالحضارة الفِرعَونية.
وإن كان لنا أن نبدأ، فيجب الابتداء بأن وجود نهر النيل فى مِصر هو عامل أساسى وحيوى فى قيام ونمو وتطور الحضارة المصرية القديمة، مع عامل آخر لا يقل أهمية، وهو موقعها الفريد المتميز بتوسطه قارات العالم محاطًا بالبحرين المتوسط والأحمر.
1- ما قبل الحضارة الفِرعَونية:
بدأت الحضارة المِصرية القديمة على ضفاف النيل، الذى يُعتبر شريان الحياة فى مِصر، وهو الذى منح المِصرى القديم الفرصة لدعم استقرار المجتمع بطريقة مركزية، ولتطوير الاقتصاد الزراعى؛ مما كان له الأثر الكبير فى صنع تاريخ الحضارة الإنسانية.
وفى عصر ما قبل الحضارة الفِرعَونية ـ تقريبا سنة 5000 ق. م ـ عاش المِصرى القديم فى وادى النيل كقبائل صغيرة اهتمت بالزراعة وتربية الحيوانات، فأدى ذلك إلى نمو وتطور الثقافة الخاصة بهما، وقد كان من كبرى تلك الحضارات: «حضارة البدارى»، ثم أعقبتها «حضارة النقادة».
وتُعد «حضارة البدارى» من أقدم الحضارات فى التاريخ فى مِصر العليا، وقد اشتُهرت بالسيراميك، الذى يمتاز بالجودة العالية، والأدوات الحجرية، والنُّحاس، وقد استمرت حضارة البدارى قُرابة الألف سنة.
ثم تبعتها حضارة أخرى هى «حضارة النقادة»ـ تقريبًا سنة 4000 ق. م ـ التى بدأت فى التوسع على طول ضفاف نهر النيل، وطورت المجتمعات الزراعية الصغيرة إلى حضارة قوية، ويعود سر شهرة «حضارة النقادة» إلى بَدء استخدام رموز كتابية تطورت فى نهاية الأمر إلى نظام كامل للغة الهيروغليفية؛ اللغة المِصرية القديمة.
وأيضًا اشتُهرت بالتقدم الاقتصادى والصناعى والفنى، بالإضافة إلى التكوين المجتمعى والسياسى السريع للمِصريين القدماء؛ مما أدى إلى نشأة مجتمعات كبيرة متقدمة فى مِصر القديمة فى الشمال والجنوب، وكانت ثمرة هذه الحضارة هى الوحدة بين المملكة الشمالية وعاصمتها «يوتو» وشعارها «البردى» وبين المملكة الجنوبية وعاصمتها «نَخْن»، وشعارها زهرة «اللوتس»؛ كان هذا مع بَدء حكم الأسرة الفِرعَونية الأولى.
2- الحضارة الفِرعَونية:
وقد ضمت فترة التاريخ الفِرعَونى ـ بكل ما يحمل من حضارة ـ حكم 30 أسرة فِرعَونية كونت سلسلة من الممالك المستقرة، تخللتها فترات عدم استقرار سُميت «الفترات المتوسطة» أو «الفترات الانتقالية».
وقد قسم بعض الباحثين هذه الفترة إلى الدولة القديمة، والدولة الوسطى، والدولة الحديثة.
وقد بلغت الحضارة المِصرية القديمة أعلى شأن لها فى عصر الدولة الحديثة، أعقبها دخول البلاد فى فترة انحدار، وقد انتهى حكم الفراعنة رسميًا بغزو الإمبراطورية الرومانية لمِصر لتصبح إحدى مقاطعاتها.
أ- الأسرتان الأولى والثانية من الحكم الفِرعَونى:
تبدأ أسس الحضارة الفِرعَونية مع بداية وَحدة الشمال والجنوب المِصريَين؛ وذلك عندما استطاع الملك «نارمَر» المُعتقد أنه «مينا»، مؤسس الأسرة الأولى، توحيد مِصر العليا ومِصر السفلى تحت حكمه متخذًا «مَنف» ـ تقريبًا سنة 3200 ق. م. ـ عاصمة له.
ومع الوحدة بدأت سلسلة من التطورات لتصبح مِصر أول دولة فى العالم تقوم على النظام المركزى من خلال وجود جهاز منظم فى الإدارة والقضاء والتعليم والشرطة والجيش.
وفى هذه الفترة جرى استخراج المعادن من مناجم سيناء، وتقدمت البلاد، وتطورت هندسة العمارة، وراجت التجارة.
وقام الملك «مينا» بإصدار القوانين، وتشييد المعابد، والمحافظة على استقرار وادى النيل من هجمات القبائل الليبية، التى تحاول الاستقرار فى وادى النيل، وكانت مدة حكمه 60 سنة.
وقد سار الملوك التالون له على نهجه نفسه وخطواته فى الاهتمام بالتشريع والإدارة، وتشييد المعابد والقصور، وحفظ استقرار البلاد.
وفى عهده خرجت أولى بَعثات التنقيب عن المعادن، ونُسخت الكتب عن الطب والتشريح، وقد كان لاختراع الكتابة المِصرية القديمة أثره البالغ فى العالم بأسره، وأيضًا داخل مِصر؛ حيث ازدهر الأدب لتسجيل أعمال الحكام، وعكس تقدم الفكر المِصرى ورُقيّه.
ب- الأسرات من الثالثة وحتى السادسة (2690 ق. م. ـــ 2180 ق. م):
كان عهد الدولة عهد وحدة وسلام ونمو، وأحرزت الدولة تقدمًا فى مجالات عدة، مما أدى إلى رخاء البلاد وقوتها.
ففى عصر الأسرة الثالثة اهتم الفِرعَون بتنمية الموارد الطبيعية والبشرية للبلاد.
وفى الثقافة نشأت طبقة من الكتاب والمثقفين والمسؤولين، الذين منحهم فِرعَون مِصر مناصب رفيعة فى الدولة نظير أعمالهم.
وفى الزراعة اهتموا بزيادة الإنتاجية الزراعية، وتنسيق مشاريع الرى لتحسين غلة المحاصيل.
ومن جهة القوانين أُنشئ نظام عدالة قضائى، للحفاظ على السلام والنظام.
وفى فن المعمار، ظهرت خصائص الطابع المِصرى فى فنون النحت والنقش، وأساليب العمارة، وبدأ عصر بناة الأهرام مع بناء «هرم سقارة»؛ فقام ملوك هذا العصر ببناء قبورهم على شكل أهرام، واستُعين بالفلاحين فى مشاريع البناء، وتدل الأهرام وعظمتها على ما كانت عليه البلاد من تنظيم ودقة وتطور لا مثيل لها فى العمارة وفن الهندسة والبناء.
ويُعد أهم ملوك الأسرة الثالثة الملك «زوسَر»، صاحب الهرم المسمى باسمه فى سقارة؛ أول بناء حجرى فى التاريخ، وأيضًا كانت لزوسَر مؤلفات علمية، وقد امتازت الدولة باتساع مواردها المالية. كذلك ظهرت مبادئ الحكم المركزى والإدارة الإقليمية.
أمَّا عن الأسرة الرابعة فكان أهم ملوكها «سِنِفْرو» أول ملك، ويُعد عصره عصر رخاء وثراء لمِصر؛ وذلك لحكمته فى إدارة شؤون البلاد.
ثم خلفه الملك الأسطورة «خوفو»، أحد أعاظم ملوك مِصر، صاحب الهرم الأكبر، الذى اهتم بتشييد المعابد، واستكمال التنقيب عن المعادن فى سيناء.
ورابع ملوكها «خفرع»، الذى ترك لنا الهرم الأوسط، وتمثال «أبوالهول» وتماثيل أخرى.
ثم يليه «مَنكاورَع» الملك العادل التقى، الذى ترك أيضًا الهرم الثالث والعديد من التماثيل، واهتم بالتعدين.
والأسرة الخامسة كانت تحظى بقوة ملوكها جميعهم، وساد السلام والرخاء والاستقرار البلاد. فقد اهتموا بالعمل فى أنحاء مِصر كافة، وأيضًا خارج حدودها.
وكان اهتمامهم الرئيسى بالدفاع عن أمن البلاد ضد القبائل النوبية والليبية، كما حاولوا إخضاع جنوب فلسطين، ومن أهم إنجازاتهم تكوين أسطول بحرى قوى أُرسل إلى سواحل الشام، وبلاد الصومال للتجارة.
وبالنسبة إلى الأسرة السادسة فقد أتم ملوكها أعمال الأسرة الخامسة، ولكنهم لم ينالوا الشهرة التى كانت لها.
وكان من أهم ملوكها الملك «بيبى الأول»، الذى اهتم بأعمال التشييد والبناء، وتحسين النظم الإدارية للبلاد، ونشْر العدل بين أفراد الشعب.
كذلك أَولى النواحى العسكرية اهتماما كبيرا فقام ببناء جيش قوى وأسطول عظيم لحفظ أمن البلاد، وقد ترك الملك بيبى الأول الكثير من الآثار التى تحمل اسمه فى ربوع مِصر.
ج- الفترة الانتقالية الأولى:
بسقوط الأسرة السادسة انتهت الدولة القديمة، ودخلت مِصر فى فترة صعبة سُميت «الفترة الانتقالية الأولى»، استمرت من الأسرة السابعة وحتى الأسرة العاشرة 140 عاما.
وتتسم هذه الفترة بضعف الملوك؛ مما أدى إلى الضعف والانحلال السياسى متمثلاً فى قيام الحكام المحليين بالتمرد على فرعون، وإعلان الاستقلال، ثم محاولتهم السيطرة على السلطة؛ ما نتج عنه نشوب المعارك بين أفراد هذه العائلات، ومحاولات للاستقلال أدت إلى انتشار الفوضى، ودخول البلاد فى مجاعة، وعودتها إلى ما كانت عليه قبل توحيدها فى عهد الملك مينا.
ففى ظل الأسرتين السابعة والثامنة ساد البلد القحط والفقر والبؤس، وانتشرت الفتن والفوضى، ولم يكُن هناك أمن فى البلاد، فتحطمت الآثار وازدادت السرقات، كما تلاشت السلطة المركزية، وهذا الانحلال والضعف أديا بالأمراء إلى الطمع فى حكم البلاد.
أما الأسرتان التاسعة والعاشرة فقد حكمتا مصر بعد استيلاء «خيتى»، أمير إهناسيا، على عرش الأسرة الثامنة، وقد حاولتا فرض سلطتهما على كل البلاد.
إلا أنه حينما تقوَّى أمراء طيبة، واستعادوا عافيتهم قامت الحرب بينهم وبين أمراء إهناسيا، وكان النصر حليف أمراء طيبة، وهكذا استُعيد العرش على يد «منتوحوتب الثانى»، وبحلول سنة 2160 ق. م أُعيد توحيد الأرضَين، وبدأ عصر ازدهار ثقافى واقتصادى فيما عرف باسم الدولة الوسطى، والحديث عن مصر لا ينتهى!