تحدثنا فى المقالة السابقة عن الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى» الذى صار إمبراطوراً وهو طفل تحت وصاية «أُنِثِيميوس»، ثم أخته «بولِكيريا» التى دبرت أمور المملكة، وأشرفت على تلقى الإمبراطور الصغير المعارف والعلوم الأخلاقية، وبحثت له عن زوجة فكانت «أُودُكِيا»، ووقوع خلاف بين الزوجة والأخت أدى إلى انتصار حزب الأخت واختفاء الزوجة فى عزلة بالقدس.
أحداث وحروب
قامت الحرب على «ثيئودوسيوس الثانى» من كل جهة، ومنها حربه ضد القبائل الچرمانية الشرقية المعروفة باسم «الوَندال» التى أسست لها دولة فى شمال أفريقيا عام 429م، وقد فشلت حملاته العسكرية ضدهم. أمّا الفرس فقد استطاع هزيمتهم فى الغزو الذى جرى فى 422 و447م.
كانت القسطنطينية فى تهديد دائم من «الهُونّ» ويرأسها «روجلاس» الذى كان يكره «ثيئودوسيوس الثانى» بشدة ويتهدده بالإغارة على بلاده، حتى إن «ثيئودوسيوس الثانى» بات يخشاه جداً فبعث إليه سفراء ورسلاً استرضائه، وعند وصولهم وجدوه مات وخلفه اثنان من بنى عمه: «آتيلا» و«بليدا»، ظلوا أياماً يطلبون مقابلتهما. وحين التقَوهما السفراء، اشترطا عليهم زيادة الضريبة التى تدفعها القسطنطينية للهُونّ، والتنازل عن أحد الموانئ، وألا تعقد القسطنطينية أية معاهدات مع أعداء الهون. وقد استجاب القيصر لتلك الشروط المُذِلة. إلا أنه بعد مدة ادعى «آتيلا» ملك الهُونّ (434 – 453م) أن العهد بينه وبين القسطنطينية قد نُقض لعدم الوفاء بشروط المعاهدة، واتهم الرومان بسرقة خزينة أحد أمرائهم، وطالب القيصر بتسديد المال، مع تسليم أحد الأساقفة المَسيحيين ليفعلوا به ما يشاءون. رفضت القسطنطينية الاستجابة لتلك المطالب، ما أدى إلى إعلان الحرب، فأغار الهُونيون على المدن الرومانية ونهبوا وقتلوا وهدَّموا قِلاعاً وسبَوا من الشعب كثيراً، وقد تعرض الرومان للهزيمة مرتين.
وصل «آتيلا» فى غزوه إلى مشارف مدينة القسطنطينية، بعد أن أحرق ودمر فى طريقه ما يقرب من سبعين مدينة، وقد منعه عن دخول المدينة أسوارها، إذ أنه لم يتمكن من اقتحامها. وعندما لم يستطِع «ثيئودوسيوس الثانى» التصدى لملك الهُونّ، اعتكف فى قصره حتى عقد معه صلحاً مجحفاً للإمبراطورية الرومانية. وقد أثر هذا فى البلاد وازدهارها، ما أدى إلى ضعفها.
فى ذلك الوقت، ضعُف نفوذ «بُولِكِيرِيا» فى البلاد، وآلت الأمور إلى «كريسافِيوس» الخَصِى الذى كان ذا تأثير قوى فى الإمبراطور، فحاول إثارة فتنة على الملك «آتيلا» لقتله والتخلص من سلطانه، إلا أن الأمر كُشف. وقد كان الملك «آتيلا» أكرم نفساً منهم وعفا عنهم، وأعادهم إلى القسطنطينية، وصفح عن «ثيئودوسيوس الثانى» باعثاً إليه برسالة يلومه فيها على تدبير أمر قتله. فما كان من «ثيئودوسيوس الثانى» إلا أن أمر بتسليم «كريسافيوس» الخَصِىّ إلى ملك الهُونّ مع الإرسال بسفارة لاسترضائه، فعفا عنهم مُجدِّداً الصلح مع الإمبراطورية الرومانية. لكنه طلب كثيراً من المال الذى لم تستطِع الدولة الرومانية دفعه. وبعد هذا الصلح بقليل، مات الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى».
جامعة القسطنطينية
فى 425م، أسس الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى» جامعة القسطنطينية. وكانت تحوى مدارس لتدريس القانون والفلسفة والطب، كما كانت تدرس بها: الرياضيات، والهندسة، والفلك، والموسيقى، والخطابة. وقد استمرت الجامعة حتى القرن الخامس عشَر.
القوانين
أنشأ الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى» فى 429م لجنة لجمع كل القوانين التى أُصدرت منذ عهد الإمبراطور «قسطنطين الأول»، كما عمل على إنشاء نظام كامل للقانون، ولكن العمل لم ينتهِ. فأتمت اللجنة الثانية التى اجتمع فى القسطنطينية العمل، وكان دورها جمع كل التشريعات العامة التى صدرت حتى ذلك الوقت، ونشر العمل باسم «الدستور الثيئودُوسيانى» فى 438م. وقد جاء دستور «ثيئودوسيوس الثانى» الذى يحوى المراسيم الصادرة من عهد «قسطنطين الكبير» أساساً لقانونَى الإمبراطور چُستِنيان الأول وكُوربُوس جوريس فى القرن التالى.
الفتية السبْعة
فى السنة الخامسة عشْرة من حكم «ثيئودوسيوس الثانى»، حدث إيقاظ للفتية السبْعة من رُقادهم. ومع اختلافالمؤرخين فى سرد وقائع تلك القصة، إلا أنهم اتفقوا على وقوعها. واختلفت أسماء هؤلاء الفتية بين المراجع، ولكنّ بعض الوثائق فى التراث تذكرهم كالتالى: مَكسيميليانوس، أكساكُوستُودْيانوس، يامبلِيكِيوس، مَرتينيانوس، دِيونِيسيوس، أنطونينوس، وقُسطَنطِينوس (أبا يوحنا).
وقصتهم أنه فى زمن الإمبراطور الرومانى «دِقلِديانوس قيصر» زاد الاضطهاد على المَسيحيِّين، وأمر بعبادة الأوثان ومعاقبة كل من يرفض بالقتل (ذكرنا تفاصيل ذاك الاضطهاد فى مقالات سابقة)، ونُفِّذ ذاك الأمر فى جميع أنحاء الإمبراطورية. وحدث أن الإمبراطور مر بـ«أفسس» لتنفيذ ذاك الأمر، فهرب منه المؤمنون، إلا أن الوثنيِّين أرشدوا عن كل من كان يعرفونه. وكان «دقلديانوس» يخيرهم بين القتل أو تقديم الذبائح للأوثان فى الهياكل. ولما رأى الفتية ما يحدث، وكانوا من أبناء عظماء روما، حزِنوا وتضرعوا إلى الله. إلا أن أمرهم اكتُشف ووُشِىَ بهم لدى الإمبراطور، فاستحضرهم وطلب منهم تقديم العبادة للأوثان، فأجاب مَكسيميليانوس كبيرهم نائباً عن الجميع:
نحن لنا إله مجده ملء السماء والأرض، إليه نقدِّم عبادتنا وصلواتنا المتواترة!
أثارت تلك الكلمات غضب الإمبراطور فأهانهم، وهددهم، ثم أعطاهم فرصة للتفكير فى الأمر واستعادة عقولهم وطاعته، ثم غادر إلى مدينة أخرى لقضاء بعض أمور الحكم. فتدبر الفتية أمرهم وقرروا أن يأخذوا بعض الأموال من بيوتهم يتصدقون ببعضها، ويشترون طعاماً بالجزء الباقى، منطلقين إلى كهف قريب للسكون والصلاة، طالبين من الله حكمة وقوة ليقدموا أنفسهم إلى «دقلديانوس» عند عودته ليفعل بهم ما شاء من قتل. ويقال إن كلباً كان لهم تبِعهم حتى وصلوا إلى الكهف الذى لبِثوا فيه مصلين. وكان يقوم أحدهم بالتنكر لشراء الطعام لهم من المدينة ومعرفة الأخبار، وظلوا على تلك الحال مدة من الزمان.
عاد «دقلديانوس» إلى المدينة، فشدد الاضطهاد على المَسيحيِّين. ووصل الأمر للفتية السبْعة ففزَعوا وصلَّوا إلى الله، وأكلوا طعاماً يسيراً حتى ناموا نَومة الموت. سأل «دقلديانوس» عن الفتية السبْعة فلم يجدهم، وبحث عنهم حتى دلوه على المغارة التى يعيشون بها، فأمر بغلقها ليموتوا جوعاً وخنقاً. وقيل إن اثنين من بيت الملك، كانا مَسيحيَّين سراً، قاما بكتابة قصة هؤلاء الفتية السبعة على لَوح من رَصاص مع أسمائهم وجعلاه فى تابوت من نُحاس دُفن إلى جوارهم ليعرِف قصتهم المؤمنون.
ومضت الأيام، ومات «دقلديانوس»، وخلَفه عديد من القياصرة حتى حكم «ثيئودوسيوس الثانى». وشاعت هرطقة أنكرت قيامة الموتى، كان مروجها أُسقف يُدعى «ثِيودُوروس». وفى ذلك الوقت، وبتدبير من الله، قام أحد الرعاة ببناء حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين أزاحا الحجارة عن مدخل المغارة، وفتَحا بابها على الفتية الراقدين. وفى الحال، عاد الفتية إلى الحياة وكأنهم ناهضون من النوم دون أن ينالهم أى تغيير ظانين أنهم مازالوا فى أيام الملك.
«دقلديانوس»!
وطلبوا من الفتى الذى يبتاع لهم الطعام أن يأتِيهم ببعض الطعام، وأن يعرف أخبار الإمبراطور «دقلديانوس» لهم.
وما أن خرج الفتى حتى لاحظ تغيراً فى شكل المدينة، ولم يجد أحداً مما يعرفه، حتى إنه سأل عن اسم المدينة فقيل له إنها «أفسس». اشترى الفتى بعض الطعام، وحين أراد دفع ثمنه تعجب البائع من النقود، وتداولتها الأيدى فى استغراب، وفكروا أن الفتى قد عثر على كَنز، فأمسكوه وطلبوا اقتسامه معه وإلا سيسلمونه للحاكم. وقبضوا عليه، وذهبوا به إلى رئيسى المدينة «أرسوس» و«اصْطَفوس». حاول الرئيسان أن يعرِفا مكان الكَنز، فقص لهما الفتى ما كان له وللفتية معه، فذهبوا جميعاً إلى الكهف. وهناك عثر الرئيسان على التابوت وعلِما بحقيقة قصتهم، فأرسلا إلى الملك «ثيئودوسيوس الثانى» ليحضَُر سريعاً. وبعد حضوره، ناموا من جديد إلى يوم القيامة العامة! وقد أمر الإمبراطور بعمل صناديق ذهب لهم، إلا أنهم ظهروا له وطلبوا منه أن يتركهم فى الكهف حتى يوم القيامة، ونفّذ لهم الطلب. وصارت تلك الحادثة من أشهر حوادث عصر ذاك القيصر. وتجدر الإشارة إلى أن قصة هؤلاء الفتية السبْعة تُعرف فى الإسلام بقصة «أهل الكهف».
مَوت ثيئودوسيوس
فى 450م، حدث أن الإمبراطور ثيئودوسيوس خرج على جواد للنزهة فسقط من عليه ومات. وقد تولى أمر الإمبراطورية من بعده أخته «بولِكِيرِيا»، وزوجها «مارقيان». وقد شهِد عصر «ثيئودوسيوس الثانى» كثيراً من الهرطقات التى تصدى لها بابا الإسكندرية «كيرلس الكبير»، فقد كان له دور مسكونى فى الحفاظ على الإيمان، إذ وصلته الرسائل من أنحاء العالم كافة تطلب توضيح الحقائق الإيمانية، فكتب عديداً من الرسائل التى اشتُهر بها. وكان هو والأساقفة المِصريُّون أبطال مجمع أفسس الذى عُقد فى 431م. وقد وصل بعض الوشاية والأخبار الكاذبة عن البابا «كيرلس الكبير» إلى الإمبراطور «ثيئودوسيوس» فأمر بعزله، حتى ظهرت الحقيقة ليعود إلى كرسيّه بالإسكندرية وتلتقيه رعيته بابتهاج عظيم. وقد أكرم القديسَ «يوحنا الذهبى الفم» وضم اسمه إلى أسماء القديسين. ثم خلفه على الكرسى السكندرى البابا دِيُسقورُس البطريرك الخامس والعِشرون.
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى