تحدثت مقالة سابقة عن حكم “الملك العادل”، سلطان “مِصر” والشام (٥٩٦- ٦١٤هـ) (١٢٠٠- ١٢١٨م)، وتوحيده البلاد، وسياسته مع الفرنج التي كانت تميل إلى المسالمة؛ فعقد عددًا من الهدنات حتى انتهت الأخيرة منها بتحرك قوات الفرنج نحو “عكا” فخرج هو بجنوده لمحاربتهم. ثم تحرك الفرنج إلى “دِمياط” حيث تمكنوا من الاستيلاء على “برج دِمياط”؛ وهو ما أحزن “الملك العادل” حزنًا شديدًا حتى إنه وقع مريضًا وتُوُفِّي، وكان ذٰلك سنة ٦١٥هـ (١٢١٨م)، ودُفن بدمشق بعد أن حكم “مِصر” و”الشام”١٩ عامًا تقريبًا.
ثم تولى “الملك الكامل” – ابن الملك العادل – حكم “مِصر”. وأود الإشارة إلى أن “الملك العادل” كان قد قسَّم الممالك بين بنيه في حياته، فكانت “مِصر” من نصيب “الملك الكامل”، يحكمها باستقلالية تامة منفردًا بتدبير أمورها.
الملك الكامل (٦١٥-٦٣٥هـ) (١٢١٨-١٢٣٨م)
“الملك الكامل مُحمد”، ابن “الملك العادل سيف الدين أبي بكر مُحمد بن أيوب بن شادي”، وأكبر أولاده بعد “مَودود”. ذكر فيه المؤرخون أنه كان يتسم بالشجاعة والفطنة والذكاء، مع رجاحة العقل وسداد الرأي والعدل نحو الرعية. كان محبًّا للعلماء ومجالسهم ويطرح عليهم المشكلات لاستطلاع آرائهم؛ فيذكر “ابن تَغْري”: “وكان سلطانًا عظيم القدر، جميل الذكر، محبًّا للعلماء، متمسكًا بالسُّنة، حسَن الاعتقاد، معاشرًا لأرباب الفضائل، حازمًا في أموره، لا يضع الشيء إلا في مواضعه من غير إسراف ولا اقتتار (تضييق في الإنفاق). وكان يبيت عنده كل ليلة (جمعة) جماعة من الفضلاء، يشاركهم في مباحثهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة في كل فن، وهو معهم كواحد منهم …”.
ومع بَدء حكم “الملك الكامل”، انضم بعض الأمراء إلى شقيقه “الملك الفائز”، وظهرت منهم أمور تدل على عزمهم خلعه وتفويض الحكم إلى “الملك الفائز”، لٰكن “الملك الكامل” رأى أن من الحكمة التأني والصبر عليهم إذ كان في مواجهة عدو آخر هو الفرنج الذين أغاروا على دِمياط؛ حتى وصل إلى مِصر أخوه “الملك المعظم عيسى” وسانده، فاستتبت له أمور الحكم وتمكن من إبعاد أخيه “الملك الفائز” ورأْس الأمراء المدعو “عماد الدين أحمد بن المشطوب”. وفي أثناء إغارة الفرنج على دِمياط، قاد “الملك الكامل” جهادًا طويلاً في مكافحتهم والتصدي لهم، فيُذكر عنه: “وله المواقف المشهودة في الجهاد بـ«دِمياط» المدة الطويلة، وأنفق الأموال الكثيرة، وكافح العدو المخذول برًّا وبحرًا، ليلاً ونهارًا …”. وحين تمكن الفرنج من دِمياط خرجوا يطلبون “القاهرة” و”مِصر”، ونزلوا في رأس الجزيرة وهي المنطقة التي تشغلها بلاد مركز “فارسكور” وبعض بلاد مركز “المنصورة”، في الوقت الذي عسكر قبالتهم “الملك الكامل” وجنوده في قرية “المنصورة”، يفرقهما “بحر أشموم”، وظلوا هٰكذا حتى انتصر “الملك الكامل” وعُقد الصلح بين الفريقين. ثم رحل الفرنج عن البلاد بعد أن أقاموا بـ”مِصر” أربعين شهرًا وأربعة عشر يومًا. وما إن انتهت حرب الفرنج حتى اهتم “الملك الكامل” بأمر أولٰئك الأمراء المتآمرين، فيذكر “ابن تَغْري”: “فلما استراح خاطر الملك الكامل من جهة هٰذا العدو (الفرنج) تفرغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد وبدد شملهم وشردهم. ودخل «القاهرة» وشرع في عمارة البلاد واستخراج الأموال من جهاتها”.
وحدث، بعد موت “الملك المعظم عيسى” حاكم “دمشق”، أن “الملك الكامل” خرج من “مِصر” قاصدًا ضم حكم “دمشق” إليه، ولما تمكن من ذٰلك قدمها إلى أخيه “الملك الأشرف” وأخذ منه عوضًا عنها بلاد “حرّان” و”الرُّها” و”سَرُوج” و”الرَّقّة” و”رأس العين”. ولما مات “الأشرف”، ضم “الملك الكامل” إليه عديدًا من البلاد ومنها “دمشق”. ثم شرع يقسّم حكم البلاد بين أبنائه: فاستخلف “الملك الصالح نَجم الدين أيوب” على البلاد المشرقية: “آمِد” وتلك النواحي، وابنه الأصغر “الملك العادل سيف الدين أبا بكر” على “مِصر”، أما أكبر أبنائه “الملك المسعود” فسيَّره إلى “اليمن” فملَك “مكة” وبلاد الحجاز و”اليمن” حتى تُوفي في حياة أبيه، و…والحديث في “مِصرالحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ