يحتفل أقباط “مِصر”، في الثلاثين من برمودة الموافق الثامن من مايو، بعيد استشهاد كاروز الديار المِصرية أول بطاركتها القديس “مَرقس الرسول”، الذي حمل شعلة الإيمان المَسيحيّ في بقاع أرضها، مؤسسًا إحدى كراسيّ الكنائس الرسولية الأربع بمدينة “الإسكندرية”، وهي: كرسيّ أورُشليم، كرسيّ أنطاكية، كرسيّ الإسكندرية، كرسيّ رومية.
كانت “الإسكندرية” آنذاك مركزًا تجاريًّا مهمًّا، ومدينة ثقافية ومنارة للعالم، ومَحط كبار العلماء والفلاسفة من أنحاء العالم كافة، وتعددت بها الديانات الفرعَونية القديمة واليونانية والرومانية، واليهودية التي انتشرت في “الإسكندرية” خلال حكم البطالسة، مع وجود قلة من اليهود كانت قد سمِعت عن المَسيحية.
وُلد القديس “مَرقس” بـ”القَيروان” بـ “الخمس المدن الغربية” التي كانت تحت الحكم المِصريّ العصرين اليونانيّ والرومانيّ، من أصول عائلة يهودية تعود لسبط “لاوي”. كان اسمه أولاً “يوحنا”؛ فقد ذكر الكتاب المقدس أن الرسل كانوا يصلون في بيت “مريم” أم “يوحنا” المدعو “مرقس”. اهتمت أمه بتعليمه وتثقيفه فتحدث “اليونانية” و”اللاتينية” و”العبرية”؛ ودرس كتب “الناموس” والأنبياء. وحين عادت عائلته إلى البلاد اليهودية بـ”فِلَسطين”، سكنوا مدينة “قانا الجليل”.
جاءت عودة أسرة مار “مَرقس” مع بَدء خدمة “السيد المسيح”؛ فعاصره وسمِع تعاليمه وشهِد معجزاته، وهو أحد السبعين رسولاً الذين اختارهم؛ وقد شهِد لهٰذا مؤرخون كثيرون منهم “المقريزيّ”. أما منزل “مار مَرقس”، فهو الأشهر في العالم إذ شهِد العشاء الأخير الذي صنعه السيد المسيح لتلاميذه،فهو الذي أشار إليه السيد المسيح بقوله: “اذهبوا إلى المدينة، إلى فلان وقولوا له: المعلم يقول: وقتي قريب، وعندك أصنع الفصح مع تلاميذي.”؛ ولذا فبيته يُعد أول كنيسة في العالم.
بدأت كرازة مار “مَرقس” أولاً مع الرسل: مع القديس “بطرس” الرسولفي أورُشليم واليهودية، ثم القديسين”بولُس” و”بَرنابا” الرسولين في رحلتهما التبشيرية الأولى، ثم تركهما وعاد إلى أورُشليم (“القدس”)، وبعدئذ ذهب مع “بَرنابا” الرسول إلى “أنطاكية” و”قبرص”. أمّا كرازة القديس “مَرقس” الأساسية فكانت في “أفريقيا”: الخمس المدن الغربية، و”الإسكندرية”، والأقاليم المِصرية حيث أسس “كرسيّ الإسكندرية” الذي امتد بعد استشهاده إلى “النوبة” و”السودان” و”إثيوبيا”.
وحين وصل مار “مَرقس” إلى الإسكندرية، قادمًا من الخمس المدن الغربية، في الأغلبسنة60/61م،بدأ كرازته بشفاء أُصبُع “إنيانوس” الإسكافي بمعجزة، ثم بدأ يحادثه هو وعائلته عن السيد المسيح فآمنوا بالمَسيحية. ثم جال مار “مَرقس” رُبوع “مِصر” مبشرًا بالمَسيحية، فانتشرت سريعًا وآمن بها عدد كبير من المِصريِّين. وكان القديس يتنقل بين البلدان مبشرًا، وظل في “روما” حتى استشهاد الرسولين “بطرس” و”بولس”، ثم رجع إلى “الإسكندرية” ليجد انتشار الإيمان في “مِصر” وتزايُد عدد المؤمنين، الذين كانوا قد بنَوا كنيسة في حي “بوكاليا” (حاليًّا الكنيسة المَرقسية الكبرى بالإسكندرية). ومع نجاح المَسيحية وانتشارها في أرض “مِصر”، ازدادت كراهية الوثنيِّين للقديس إذ رأَوا فيه خطرًا شديدًا على دياناتهم، فقرروا التخلص منه. وفي سنة 68م، أثناء الاحتفال بعيد القيامة المجيد، الذي صادف احتفال الوثنيِّين بعيد الإلٰه “سيرابيس”، هجموا على الكنيسة وقبضوا على “مار مرقس” وربطوه بحبل، وجروه في شوارع المدينة وطرقاتها وأزقتها حتى تمزق لحمه وسالت دماؤه على أرض مصر!!! ثم أودعوه السجن. وفي صباح اليوم التالي، ربطوه بالحبال وجروه في المدينة، وهو يصلي لأجلهم طالبًا لهم المغفرة!!! وظل هٰكذا حتى استُشهد. وحاول الوثنيون حرق جسده، لٰكن عناية الله لم تشَأ؛ فهبت رياح وتساقطت الأمطار الغزيرة وأطفأت النار، وحضر المَسيحيون وحملوا جسد أبيهم مار “مرقس” ليُدفن بالكنيسة التي تسمت باسمه.
اهتم “مار مَرقس” بالتصدي للأفكار الوثنية آنذاك، فأسس مدرسة “الإسكندرية” اللاهوتية، وعهِد بها إلى العلّامة “يُسطس” الذي أصبح فيما بعد السادس من بابوات “الإسكندرية”. كانت مدرسة الإسكندرية تدرِّس العلوم الدينية والفلسفة والمنطق والطب والهندسة والموسيقا وغيرها، وذاع صيتها حتى حضر إليها علماء وفلاسفة من كل بلاد العالم، وتخرج فيهاعدد من الآباء الذين صاروا فيما بعد بطاركة على الكرسيّ المرقسيّ، وكثير من الأساقفة المشهورين.
وهٰكذا صارت لمصر بركات خاصة بحضور “مار مرقس” الذي يجِله العالم ويعترف بدوره وخدمته وتعبه في كثير من البلاد،ليصبح”كاروز ديار مِصر” وكاتب الإنجيل الذي يحمل اسمه”، و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ