تحدثت المقالة السابقة عن محاولات “أبي الفتوح” الساعية لرسامة “القَس داود” بطريركًا، وفشلها لرفض السواد الأعظم من الأقباط هذا القَس، كما تحدثت برغبة “الملك الكامل” في رسامة الراهب “حبيس أبيار” بطريركًا، وعدم تحققها لاتفاق “أبي الفتوح” والأمير “فخر الدين عثمان” وزير “الملك الكامل” على إعادة ذلك الراهب لصومعته؛ وظل الكرسيّ المرقسيّ بلا بطريرك؛ فتذكر مخطوطة “أنبا ساويرس ابن المقفع”: “واجتمع على الناس في هٰذه السنة ثلٰثة أشياء: موت السلطان، ونزول العدو على البلاد، وشُحَّة النيل (قلة مائه جدًّا)؛ والكنيسة خالية من البطرك”. وفي أثناء ذٰلك، تُوفي “الملك العادل” (كما عُرض سابقًا) بعد أن وصلته أخبار عن قدوم الفرنج إلى “دِمياط” واستيلائهم على “برج دِمياط”.
وقد سعى “القَس داود” (كما ذُكر سابقًا) للرسامة بطريركًا؛ ويذكر صديقه كاتب سيرته أنه لم يكُن يقبل نصحًا في أمر سعيه الحثيث لتلك الرسامة، غير تارك هذا الشأن لمشيئة الله، فيقول: “لأنه كان صديقي، وكنتُ أعرِف منه علمًا بارعًا وكهنوتًا حسنًا وترجمة الألسن. وإنما كنت أكره منه تهافته وتظاهره بالطلب وقلة تحاشيه من الحديث في هٰذا الأمر (السعي لمنصب البطريركية) لنفسه. وكنت أنصحه في ذٰلك فلا يقبل. وأقول له إن هٰذا الأمر (المنصب البطريركي) يصلح أن يتظاهر العاقل (المدرك لجسامة مسؤوليته) بأنه لا يريده، وإذا تُحُدِّث بهٰذا (الشأن) قدامه (قدام العاقل) كرِه الحديث وقام نزل من الموضع الذي يكون فيه؛ هٰذا إن لم يكُن بارًّا. وإن كان بارًّا، فيكون هٰذا (الرفض للمنصب) باطنه وظاهره، لأن هٰذا الأمر يكون فيه إقدام على عظائم (شدائد) وتقليد لرعية كثيرة يكون الإنسان مدانًا عنها؛ فيحمل (القس داود) الأمرَ مني على التقييد له، ولا يرجع عما هو عليه. ولم يكُن متوكلاً على الله في إعطاء هٰذا الأمر له، بل (يصر) على سعيه واجتهاده.”. أمّا الأقباط فقد عمِلوا محضرًا يُقر بأن “القَس داود” لعدم استقامة إيمانه كان ممنوعًا من “أنبا بطرس” أسقف الفيوم، وأن فتنًا كثيرة بسبب ذٰلك القَس وقعت بالفيوم حتى إنه طُرد منها، كما أنه كان قد مُنع من “البابا يوحنا السادس”. ومضت سنون طويلة وأمر رسامة البطريرك محفوف بكثير من الشقاق والفتن بين الناس!
وتولى “الملك الكامل” حكم “مِصر” في واحدة من أصعب الحِقب، بعد أن دخل الفرنج “دِمياط” وشرعوا في التوجه نحو “القاهرة”. وقد تعرض المَسيحيون في ذٰلك الوقت لكثير من الاضطهادات، وتأزمت الأحوال المالية بسبب حروب الفرنج. فطلب “الملك الكامل” رسامة “القَس داود” بطريركًا لنَيل رسوم البطريركية، إضافة إلى مال من “القَس داود” نفسه، لٰكن أغلبية الأقباط عارضت تلك الرسامة. أمّا “القَس داود” فلم تضعف رغبته في الاستيلاء على الكرسيّ المرقسيّ، فارتدى ملابس الأب البطريرك وتوجه إلى “كنيسة القديس سرجيوس”، محاطًا بأعوانه!!! لٰكن جمهور الأقباط ثار عليه. وفي إحدى زيارات “الملك الكامل” لأديرة وادي النطرون، طلب إليه الرهبان السماح لهم بتعيين أب بطريرك، لاحتياج الكنيسة إلى رسامة آباء أساقفة في عدد من الإيبارشيات التي خلت بعد أنرحل أساقفتها عن الحياة؛ ويذكر “القَس منَسَّى يوحنا”: “فأجابهم الملك الكامل، بلطفه المعهود، أنه لا يتأخر عن إجابة طلبهم إذا توافقوا على بطريرك يُجمعون على انتخابه، ووعَدهم بالتنازل عن الرسوم التي اعتادت البطريركية دفعها للحكومة عند تنصيب كل بطريرك جديد”.
وعلى الرغم من مرور قرابة عشرين عامًا، فإن “القَس داود” لم يهدأ عن سعيه لمنصب البطريرك، وخصوصًا لشعوره بأن الطريق مهيأ إلى تحقيق مأربه: بموت كثير من الأساقفة المعارضين له في تلك الحقبة، وباحتياج “الملك الكامل” الشديد إلى الأموال. وفي تلك الأثناء، كان راهب عُرف بخبثه ومكره وتوريطه الأقباط ظلمًا في أمور كثيرة – حتى إنه حين انكشف كذبه للملك أمر بسجنه؛ اتفق هٰذا الراهب و “القَس داود” على معاونته مقابل دفع ثلاثة آلاف دينار للدولة. فلجأ هٰذا الراهب إلى أحد رجال حاشية الملك – الملقب بفخر الدولة – واستطاع أن يستصدر منه مرسومًا بسيامة “القَس داود” بطريركًا، وتسمى بـ”كيرلس الثالث” سنة ١٢٣٤م (١٢٣٥م)، و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ