تحدثت المقالة السابقة عن وفاة “الملك العادل”، وتولي “الملك الكامل” حكم “مِصر، وإصرار “القَس داود” على سعيه لرسامته بطريركًا، وقيام سعي مضاد من الأقباط لاجتناب تلك الرسامة لمعرفتهم بعدم استقامة إيمان ذٰلك القَس؛ فما كان إلا أن وقع كثير من الشقاق والفتن بين الناس عَقدين من الزمان. ثم تمكُّن ذٰلك القَس من الوصول إلى بُغيته، بمعاونة راهب عُرف بخبثه ومكره مقابل دفع ثلاثة آلاف دينار للدولة، وبذا صار بطريركًا باسم “كيرلس الثالث” سنة ١٢٣٤م (١٢٣٥م).
“البابا كيرلس الثالث” (١٢٣٤/١٢٣٥-١٢٤٢/١٢٤٣م)
الخامس والسبعون في بطاركة كنيسة الإسكندرية، ويلقَّب بـ”ابن لُقلُق”. وكان بعد رسامته بطريركًا، أن أقام احتفالاً بهيجًا بها حتى ذُكر: “وسيَّر إليه السلطان خِلْعة حسنة: وهي ثوب عَتّابيّ (قماش من الحرير والقطن كان يصنع بحي ببغداد يُعرف بالعَتّابية) أزرق بطراز ذهب وبعيار ذهب، وطرحه. وحكى الحاضر(ون) أنه كان يومًا مشهودًا، وأن أكثر غِلمان السلطان وخدامه كانوا حاضرين، وأنه كان مجدًا لم يُرَ مثله من زمان”. ثم انتقل بين الأديرة حتى وصل إلى “القاهرة” في احتفال سار.
وقد حاول البطريرك “كيرلس الثالث” في بَدء الأمر أن يسترضي رعيته، فرسم بعض القساوسة والشمامسة دون أن يحصل منهم على الأموال، لٰكنه لم يستمر على تلك الحال كثيرًا، فيذكر “أنبا ساويرس ابن المقفع”: “كان محبًّا للمال وأخذ الشرطونية … واستقرت القاعدة على أنه لا يكرِّز أحدًا إلا بشرطونية”، وذكر “القَس مَنَسَّى يوحنا”: “ولٰكنه فيما بعد استبد وأساء التدبير وأظهر شراهته في محبة المال وتحصيله إياه بطرق غير جائزة. وكانت أكثر من أربعين إبروشية قد خلت من الأساقفة، فصار لا يولّي أسقفًا إلا من يَنقُده (يُعطيه) مبلغًا أكثر من سواه بغير مراعاة الأهلية والاستحقاق.”؛ وهٰكذا أعاد ذٰلك البطريرك “السيمونية” (نَيل الرتب الكهنوتية مقابل المال) فنفر الشعب منه. وقد نصحه كثيرون بالابتعاد عن تلك الأعمال فلم ينتصح، بل بررها بأنه مضطر إلى جمع الأموال لكي يسدد أموال تنصيبه بطريركًا إلى الملك.
وقد أصدر البطريرك “كيرلس الثالث” عددًا من أوامر إدارية كنسية تجعل تبعية جميع الأديرة له، ثم فرض رسومًا سنوية عليها. ثم ما لبث أن أخذ في انتزاع عدد من البلاد التابعة للإيبارشيات وضمها إلى تبعيته المباشرة، ووضع عليها عوائد تُدفع له مباشرة!! فما كان إلا أن تكدرت قلوب الرعية والأساقفة والرهبان، واحتجوا بشدة على سيمونيته المتفحشة؛ “ولما رأى أن احتجاج الشعب شديد ضد السيمونية، دعا إليه كبار الأمة والاكليروس (حاملي الرتب الكهنوتية) وأخبرهم أن ما جمعه كان لإيفاء الأموال الأميرية، ووعدهم أنه بعد سداد المطلوب يكُف عن بيع الرتب الكهنوتية إذا لم يكُن داعٍ لجمع الأموال بهٰذه الطريقة”. وقد ساءت الأمور بين البطريرك وكثيرين جدًّا، ومنهم “أبو الفتوح” الذي كان يسعى “ابن لقلق”عن طريقه سابقًا للحصول على منصب البطريرك، وأيضًا الراهب الذي أعانه على تولي ذلك المنصب.
وعيّن البطريرك “كيرلس الثالث” مِطرانًا قبطيًّا، أطلق عليه اسم “مِطران سوريا”، وأرسله إلى مدينة القدس للإقامة بها على الرغم من معارضة أساقفة “مِصر” في ذٰلك التعيين، متعديًا على حقوق بطريرك أنطاكية السريانيّ، ما أدى إلى تمزق العلاقة بين الأقباط والسريان. وقد أبى بطريرك أنطاكية الاعتراف بالمِطران القبطيّ، وعين مِطرانًا لكنيسة الحبشة ردًّا على تصرف البطريرك “كيرلس الثالث”.
وقد أدت جميع تلك القرارات والتصرفات إلى إثارة حفيظة الأقباط وكبار الأمة القبطية، مكررين محاولاتهم في تقديم النصيحة إليه فلم يقبل، فما كان منهم إلا أن اجتنبوه واعتزلوه، فازدادت له الفرصة في أعماله واستبداده. ثم تقدم عدد من كبار الأمة القبطية وأساقفتها بشكوى إلى المسؤولين، يطلبون فيها: إقلاع البطريرك عن السيمونية، احترام حقوق بطريرك السريان، عزل غير المستحقين من الرتب الكهنوتية، عدم تقليد بدع الكنيسة اليونانية، تعيين أحد الأساقفة الشيوخ وكيلاً للبطريركية. أما البطريرك فلم يلتفت إلى تلك الطلبات، و… والحديث في “مِصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ