تحدثت المقالة السابقة عن تكريم الأديان للسيدة العذراء، وعلو شأنها لدى الله، والصوم الذي بدأه الآباء الرسل الأطهار تلاميذ السيد المسيح، الذي صار باسمها “صوم السيدة العذراء”، وحياتها التي لم تكُن سهلة قط، بل امتلأت بآلام وصعوبات ومشقات بالغة حتى صارت نموذجًا فريدًا لكل إنسان يجتاز درب الحزن والألم.
وقد امتلأت حياة “السيدة العذراء” أيضًا بالعطاء فكان نهرًا سخيًّا لا يعرف نضوبًا.فهي الطفلة التي قدمت حياتها لخدمة الهيكل منذ أن كانت في الثالثة، فعاشت حياة مقدسة لله في صلوات وأصوام باتضاع عجيب حتى بلغت الثانية عشرة. ثم كرست حياتها لرعاية السيد المسيح بعد بشارة رئيس الملائكة الجليل جَبرائيل إليها بأنها ستحبل وتلد ابنًا دون زرع بشر، فأطاعت قائلة: “هوذا أنا أَمَة الرب. ليكُن لي كقولك.”.ثم عاشت وهي تتبع خطوات السيد المسيح، حتى إن الكتاب يخبرنا:“وفيما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: «هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك».”، وظلت تتبعه حتى الصليب، إلى أن أودعها السيد المسيح لدى تلميذه “يوحنا الرسول”، صائرة أمًّا لكل البشر.
وبعد صلب السيد المسيح وموته وقيامته وصعوده، استمرت “السيدة العذراء”في تكريس حياتها لله بالصلاة والتشجيع والمساندة لآبائنا الرسل والكنيسة كلها. وهنا أتذكر قصة مساندتها وإنقاذها “مَتِّيّاس الرسول” وقت أن كان يجول مبشرًا بالمسيحية، حتى وصل إلى مدينة تُدعى “بَرطُس” (في محيط مدينة “غَلاطية” بأسيا الصغرى) التي كان أهلها يعبدون الأصنام، فبدأ “متياس الرسول” في تبشيرها وصُنع كثير من القوات والعجائب حتى آمن كثيرون من أهلها وصاروا يكسرون الأصنام. لٰكن الوثنيين الذين لم يؤمنوا اغتاظوا، وسعَوا لدى الوالي متهمين “متياس الرسول” بأنه لا يحترم الآلهة ولا قوانين المدينة، فغضِب الوالي وأمر بسَجن “متياس الرسول” ومن معه؛ فسرعان ما ارتفعت الصلوات العميقة إلى الله لإنقاذهم من السجن لتصل إلى السماء.
وسمعت “السيدة العذراء” وهي ما تزال في فلسطين – أورشليم آنذاك -أن “متياس الرسول”في ضيق شديد؛ فقدمت صلوات كثيرة إلى الله من أجل أن يرشدها إلى مكانه، فعلمت بإرشاد إلهيّ أنه بمدينة “برطس”، فذهبت إليه بطريقة معجزية، وهناك قابلت امرأة عجوزًا – كانت قد آمنت على يد “متياس الرسول” – فأرشدتها إلى السجن. وحال وصول “السيدة العذراء” إلى السجن، وجدت أنه مقفول بسلاسل من حديد، فصلت إلى الله أن ينحل الحديد ويذوب ويصير كالماء؛ فسمع الله صلاتها وذاب الحديد، لا السجن وحده بل حديد المدينة كلها؛ وذابت معه قلوب المدينة بأسرها اضطرابًا!
ووصل الأمر إلى الوالي وسأل عن السبب، فأُخبر أن سيدة غريبة وعجيبة حضرت تبحث عن “متياس الرسول”المسجون، وأنها وقفت أمام أبواب السجن المغلَّقة وصلّت بكلمات لم تُفهم أدت إلى ذوبان الحديد في كل المدينة!! فأرسل الوالي فيطلبها، ولما حضرت عنده سألها عن أمر حل الحديد، وكان له ابن مجنون به شيطان فأمر بإحضاره أمام “السيدة العذراء”؛ فأخرجت منه الروح الشرير ورُد إليه عقله. فرِح الوالي جدًّا وأعلن إيمانه هو وأهل المدينة جميعًا، ثم سألوا “السيدة العذراء” أن تعيد حديد المدينة إلى صلابته الأولى فصلت إلى ابنها الحبيب فعاد الحديد إلى حالته الأولى. ثم سارع الوالي بتحطيم الأوثان التي كان يعبدها، وأمر ببناء كنيسة عظيمة على اسم “السيدة العذراء”. وقد صارت تلك المعجزة تذكارًا سنويًّا تحتفل به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الحادي والعشرين من شهر بؤونة: “تذكار معجزة حَل الحديد”.
لقد قدمت “السيدة العذراء” حياتها كلها إلى لله، وخدمته في فيض وتواضع، وهي حتى الآن ما زالت تلبي نداء كل إنسان يطلب شفاعاتها لدى الله، و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ