أود أن أهنئكم جميعًا بمناسبة «عيد إعلان صعود جسد السيدة العذراء إلى السماء» الذى احتفلنا به أمس الثلاثاء السادس عشر من مسرى (٨/٢٢)، مصلين إلى الله أن يبارك «مِصر» وشعبها بالخير والبركات، ويحل السلام فى العالم ببركة شفاعات «السيدة العذراء» وصلواتها، التى قال عنها الحكيم: «بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلاً، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا»، والتى قيل عنها فى سورة آل عمران: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ الْعَالَمِينَ}. وقد تحدثت مقالتان سابقتان عن مناسبة هذا العيد، وصوم الآباء رسل السيد المسيح حتى أظهر الله لهم جسدها الطاهر، بعد أن أخبرهم «توما الرسول» أنه رأى الملائكة تحمله بعد نياحتها إلى السماء.
كذلك ساقنا الحديث عن فضيلة الاحتمال فى حياة «السيدة العذراء» التى ذاقت فيها آلاما وتجارب حتى صارت سندًا لكل متعَب يطلب شفاعتها، والتى ظلت تعطى حتى باتت نهرًا من العطاء يجلب إلينا البركات أمس واليوم وغدًا.
واليوم أود التحدث عن فضيلة التقوى فى حياة «السيدة العذراء».
حياة التقوى
لقد عاشت «السيدة العذراء» حياة طاهرة مقدسة امتلأت بالتقوى والوداعة، فمنذ نعومة أظفارها كانت الطفلة التى نُذرت لله، فدخلت الهيكل وهى لم تتجاوز الثالثة، وعاشت فيه حياة التأمل والصلاة والخدمة، لا تعرف إلا محبة الله والخضوع لوصاياه. كان الله هو سندها الوحيد فى حياتها فألقت كل اتكالها عليه، مرددةً مع داود النبىّ: «جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِى فِى كُلِّ حِينٍ، لِأَنَّهُ عَنْ يَمِينِى فَلَا أَتَزَعْزَعُ». وفى حياتها تلك، كانت التسابيح والصلوات هى اشتهاءها وجوهر لذاتها، وأمسى التأمل فى عظمة الله وجلاله هو ما يشغل ذهنها ويجذب أفكارها، إلى جانب أعمال البر والمحبة التى اتسمت بها طوال حياتها.
وفى حياة التقوى، امتلأت من النعمة حتى إن السماء حين أرادت أن تحييها على لسان رئيس الملائكة جَبرائيل، قيل لها: «اَلسَّلَامُ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُمْتَلِئَةُ نِعْمَةً! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِى النِّسَاءِ»؛ وفى تقواها أطاعت البشارة وقالت: «هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِى كَقَوْلِكَ.». لقد كرست حياتها لخدمة الله وطاعته مهما بدت الأمور صعبة وتعاظمت. وفى تقواها قدمت محبتها إلى الكل؛ فحين أخبرها رئيس الملائكة «جَبرائيل» أن نسيبتها العجوز العاقر «أليصابات» هى حُبلى فى شهرها السادس، قائلاً: «لِأَنَّهُ لَيْسَ شَىءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ»، أسرعت «السيدة العذراء» بقلبها المحب الرقيق إلى خدمة «أليصابات» مهما كانت المشقة عليها، فيقول الكتاب: «فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِى تِلْكَ الْأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ… فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا»؛ وهكذا علمتنا حياة «السيدة العذراء» كيف تكون التقوى والمحبة الحقيقية مطيعة وصيتى الله «إِنِّى أُرِيدُ رَحْمَةً لَا ذَبِيحَةً» و«تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». ومما يُذكر عن محبة «السيدة العذراء»: أنها حين هربت إلى «مِصر» عبرت بمدينة «سمنود» شمال شرق محافظة الغربية، فعند دخول العائلة المقدسة إلى المدينة استقبلها أهلها استقبالاً حافلاً، فطلبت «السيدة العذراء» فى محبتها من طفلها السيد المسيح أن يبارك المدينة وأهلها، فباركهما وأعلمها بأنه سوف تكون بالمدينة كنيسة مباركة باسمها، ثم بارك بئر ماء هناك. ولا يُنسى أنها فى رقتها تشفعت فى أصحاب عرس قانا الجليل عند «السيد المسيح» ولبى طلبها ليصنع هناك أولى معجزاته.
لقد ظلت «السيدة العذراء» تحيا حياة التقوى والقداسة فى محبة كاملة وخضوع عجيب لله ومشيئته حتى نياحتها وإصعاد جسدها إلى السماء، بل ما تزال تشارك الأرضيين بصلواتها وتشفعاتها فتبارك شعب «مِصر» بظهوراتها العجيبة فى كنائسها، التى صارت حديث العالم كله.
كل عام وجميعكم بخير، و… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى