جرى الحديث في مقالة سابقة عن حكم “الملك الصالح أيوب” (٦٣٧-٦٤٦هـ) (١٢٤٠-١٢٤٩م)، واسترداده “القدس” من الفرنج بمساعدة “الخَوارَزمية”، ومحاصرته “دمشق” وتمكنه منها ومُلكها. ثم كان أن ساءت الأمور بين “الملك الصالح أيوب” وبين “الخَوارَزمية” لأنهم لم ينالوا ما يرغبونه من إقطاعيات، فاتفقوا مع كل من أكبر أمراء “الصالح أيوب” وحاكم “الكَرَك” و”الملك الصالح إسماعيل” على محاربة “الصالح أيوب”، انتهت بانتصاره عليهم ودخول “مِصر” و”الشام” تحت حكمه.
وفي سنة ٦٤٦هـ (١٢٤٨م)، مرِض “الملك الصالح أيوب” وارتحل من “دمشق” عائدًا إلى “مِصر” التي صارت هدفًا للفرنج؛ ونزل بـ”أُشْمُوم طَنّاح” ليكون في مواجهة الفرنج إن قصدوا دخولها من “دِمياط”. وامتلأت “دِمياط” بالجنود والذخائر، وأرست مراكب “الفرنج” في البحر أمام الجيوش المرابضة، ثم نزلوا إلى البر في اليوم التالي ونصبوا خيامهم. حدثت مناوشات بين جيش “الملك الصالح” بقيادة “فخر الدين” والفرنج، قُتل فيها “الأمير نجم الدين” و”الأمير الوزيري”، وتراجع الجيش إلى “أُشْمُوم طَنّاح” فترك أهل دِمياط مدينتهم، فيذكر “ابن تَغْري” عن “ابن واصل”: “فترحَّل «فخر الدين» ابن الشيخ بالناس، وقطع بهم الجسر إلى البر الشرقي الذي فيه دِمياط، وتقهقر إلى «أُشْمُوم طَنّاح»، ووقع الخَِذلان على أهل «دِمياط» فخرجوا منها طول الليل على وجوههم حتى لم يَبقَ بها أحد؛ وكان هٰذا من قبيح رأي «فخر الدين»؛ فإن «دِمياط» كانت في نَوبة (فرصة) سنة خمس عشرة وستمائة أقل ذخائر وعددًا، وما قدر عليها الفرنج إلا بعد سنة، وإنما هرب أهلها لما رأَوا هرب (هروب) العسكر وضعف السلطان؛ فلما أصبحت الفرنج ملكوها صَفْوًا (خالصة) بما حوت من العُدد والأسلحة والذخائر والغلال والمجانيق، وهٰذه مصيبة لم يجرِ مثلها! فلما وصلت العساكر وأهل «دِمياط» إلى السلطان حَنِق على الشجعان الذين كانوا بها، [وأَمَرَ بهم] فشُنقوا جميعًا …”. ثم رحل “الصالح أيوب” بالجيش إلى “المنصورة” حيث القصر الذي بناه أبوه “الملك الكامل”، واجتمع إليه عدد كبير من الناس والعربان، وبدأت المناوشات والإغارات على “الفرنج”، واستمرت الحال هٰكذا أشهر عدة. وفي ذٰلك الوقت كان المرض يتزايد بالملك “الصالح أيوب” حتى مات، لٰكن خبر موته ظل في طي الكتمان وأدارت زوجته “شجرة الدر” أمور البلاد، وظل أمر موته مخفيًّا إلى أن حضر ابنه “توران شاه” من “حصن كيفا” وملك من بعده.
وقد اختلف المؤرخون في وصف شخصية الملك “الصالح أيوب”، فذكر بعضهم: “وكان مهيبًا، عزيز النفس، عفيفًا، طاهر اللسان والذيل (مستقيمًا بريئًا من العيوب)، لا يرى الهَزْل ولا العبث، شديد الوقار كثير الصمت، اشترى من المماليك الترك ما لم يشترِه أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره … وجعلهم بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم «البحرية»”. وقيل أيضًا: “وكان ملكًا مهيبًا جبارًا ذا سطوة وجلالة، وكان فصيحًا، حسَن المحاوَرة، عفيفًا عن الفواحش.”. وفي أثناء مرضه قيل عنه: “وكان يتجلد، ولا يطَّلع أحد على حاله”، في الوقت الذي يرى بعضٌ آخر جانبًا مغايرًا، فقيل: “وكان «الملك الصالح» كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاقبة على الوهم، لا يقبل عثرة، ولا يقبل معذرة، ولا يرعى سالف خدمة، والسيئة عنده لا تُغفر، والتوسل إليه لا يقبل، والشفائع لديه لا تؤثر، فلا يزداد بهذه الأمور التي تَسُلّ (تُخرج) سخائم (أحقاد)الصدور إلا انتقامًا (التوسلات والتشفعات لديه لكي يصفح لا تَزيده إلا ميلاً إلى الانتقام والعقوبة!!). وكان ملكًا جبارًا متكبرًا شديد السطوة، كثير التجبر على أصحابه ونُدَمائه وخواصه، ثقيل الوطأة …”. إلا أنهم اتفقوا على حسن سياسته ومهابته، والإنفاق في مهمات الدولة، وله همة عالية وطموحات كبيرة إلى الاستيلاء على الدنيا بأسرها!!! وقد حكم “الملك الصالح” مِصر تسع سنوات وسبعة أشهر وبضعة أيام، ودُفن في مقبرة إلى جانب مدرسته بالقاهرة. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ