تحدثت فى مقالة سابقة عن مرض «الملك الصالح أيوب» ووفاته، وإخفاء «شجرة الدر» خبر موته، وتوليها مسؤولية إدارة شُؤون البلاد حتى حضور ابنه «توران شاه» من «حصن كيفا» وتوليه حكم «مصر». ومع الوقت بدت من «توران شاه» أمور جعلت القلوب تنفِر منه، فاتحدوا على قتله؛ وتمكن منه بعض مماليك أبيه البحرية فقتلوه بأبشع الطرق، بعد أن قضّى فى الحكم أقل من شهر! ثم آل الحكم إلى «شجرة الدر» وخُطب لها على المنابر فى «مصر» و«القاهرة».
كانت «شجرة الدر» جارية للملك «الصالح أيوب»، أعتقها وتزوجها وأنجب منها ولده «خليل» الذى تُوفى صغيرًا. وقد صحبت «شجرة الدر» زوجها فى بلاد المشرق أثناء حياة أبيه «الملك الكامل»، ثم فى حبسه بـ«الكَرَك» مشاركةً إياه فى الضيقات والأهوال التى تعرض لها حتى وصوله إلى حكم «مِصر». وقد اتفق المؤرخون على رجاحة عقل «شجرة الدر» وحسن تدبيرها واحترام رجال الدولة إياها، فيذكر عنها «ابن تَغْرى»: «ثم قدِمت معه (مع زوجها «الملك الصالح أيوب») «مِصر» لما تسلطن؛ وعاش ابنها (خليل) بعد ذٰلك وتُوفى صغيرًا. وما زالت فى عظمتها من الحشم والخدم، وإليها غالب تدبير الديار المِصرية فى حياة سيدها (الملك الصالح) وفى مرضه وبعد موته، والأمور تدبرها على أكمل وجه، إلى أن قدِم ولد زوجها الملك المعظم (توران شاه). فلم يشكر لها (توران شاه) ما فعلتْه من الإخفاء لموت والده وقيامها بالتدبير أتم قيام… فترك (توران شاه) ذلك كله وأخذ فى تهديدها، وطلب الأموال منها بسرعة، فلم يحسُن ذلك ببال أحد».
وبعد قتل «توران شاه» يقول: «واتفقوا على ولايتها لحُسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها، وجعلوا (المعز أيبك) التركمانى أتابَكًا (قائدًا أو حاكمًا عسكريًّا) لها. وخُطب لها على المنابر بـ(مصر) و(القاهرة)، لٰكنها لم تلبس خِلْعة (ما خُلع من ثياب) السلطنة الخَلِيفَتِى على العادة، غير أنهم بايعوها بالسلطنة فى أيامٍ أرسالاً (جماعاتٍ) وتم أمرها».
حكمت «شجرة الدر» «مِصر» ثلاثة أشهر، ثم خلعت نفسها، فآل الملك إلى «المعز أيبك التركمانى» الذى تزوجته، ليصبح أول ملوك الترك بـ«مِصر»، كما قيل إنها تزوجته بعد سلطنته وبقى الحكم الحقيقى لها حتى ذُكر: «وكانت مستولية على (أَيْبَك) فى جميع أحواله ليس له معها كلام»، وعندما بلغها أنه «يرغب الزواج بابنة الملك» الرحيم بدر لؤلؤ «حاكم الموصل» أدركت أنه إنما يرمى إلى إبعادها أو أنه عازم على قتلها، فدبرت مؤامرة لقتله، وتمت لـها ما أرادت. وقيل إن الملك «المعز أيبك» قد قُتل خنقًا بأيدى «سِنْجَر الجَوْهَرى» (الجَوْجَرى) وبعض الخدم، أو ضربًا بالقبقاب. وحين انتشر خبر موت الملك «المعز أيبك» اضطربت البلاد، واتفق الأمراء على تولية «الملك المنصور نور الدين» ابن الملك «المعز أيبك»، وقام بعضٌ بتنصيب الأمير «علم الدين سِنْجَر الحَلَبى»- أتابَك الملك «المعز أيبك»- سلطانًا، إلا أن الأمر استقر أخيرًا للملك «المنصور».
أما «شجرة الدر»، فقد احتمت بدار السلطنة، فرغب مماليك المعزية (التابعين للملك المعز أَيْبَك) القبض عليها ومن شاركوها فى مؤامرة القتل، لكن الأمراء الصالحية حالوا بينهم وبينها حتى غُلبوا من مماليك المعزية، فأخرجوها من دار السلطنة وحبست فى «البرج الأحمر» بـ«قلعة الجبل» ومعها بعض جواريها. أما الخدام الذين اتفقوا على قتل «المعز أَيْبَك» فقد قُتلوا صلبًا. ظلت «شجرة الدر» بالبرج الأحمر حتى قُتلت، فيذكر المؤرخون: «واستمرت »شجرة الدر« بـ«البرج الأحمر» بـ(قلعة الجبل)، و(الملك المنصور على) ابن (الملك المعز أيبك) ووالدتهم يحرضان المعزية على قتلها، والمماليك الصالحية تمنعهم عنها، لكونها جارية أستاذهم؛ وما زالوا على ذلك إلى يوم السبت حادى عشر شهر ربيع الآخر؛ وُجدت مقتولة مسلوبة خارج القلعة، فحُملت إلى التربة التى كانت بنَتها لنفسها…»، والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى