السلام هو حُلم الإنسانية على مدى العصور والأزمان. فمنذ أن خلق الله الإنسان حتى سقوطه في خطية العصيان لم يعرف سوى حياة الهدوء والسلام، إذ كان أبوانا آدم وحواء يتمتعان بالعيش في جنة “عَدْن” في محضر الله ملك السلام. وما إن فقد الإنسان سلامه حتى امتلأت حياة البشر بالاضطرابات والحروب والدمار، فكان من أبشع مشاهدها التي عرَفها التاريخ “إبادة الشعوب”.
ومنذ فقدان السلام، وصار السلام وعدم القتل من الوصايا التي كانت بؤرة اهتمام كبير في الأديان، إذ أمر الله البشر باتباع السلام مع الآخرين وعدم التعرض لهم بأذى. ففي اليهودية: “ٱُطْلُبِ ٱلسَّلَامَةَ، وَٱسْعَ وَرَاءَهَا”، وأيضًا: “لَا تَقْتَلْ“، “لَا تَسْرِقْ“،“ لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ“، كما أمر: “ٱِبْتَعِدْ عَنْ كَلاَمِ ٱلْكَذِبِ، وَلَا تَقْتُلِ ٱلْبَرِيءَ وَٱلْبَارَّ، لِأَنِّي لَا أُبَرِّرُ ٱلْمُذْنِبَ“، وذٰلك كي يعيش البشر آمنين. بل أوصى الله بسلام الغريب: “وَلَا تَضْطَهِدِ ٱلْغَرِيبَ وَلَا تُضَايِقْهُ، لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ“، كذٰلك دعا إلى محبة السلام والقضاء به: “فَأَحِبُّوا ٱلْحَقَّ وَٱلسَّلَامَ“،“ٱقْضُوا بِٱلْحَقِّ وَقَضَاءِ ٱلسَّلَامِ فِي أَبْوَابِكُمْ“. وفي المسيحية: طوب السيد المسيح صانعي السلام فقال: “طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلَامِ”،وكانت الوصية: “عِيشُوا بِٱلسَّلَامِ، وَإِلٰهُ ٱلْمَحَبَّةِ وَٱلسَّلَامِ سَيَكُونُ مَعَكُمْ”،و“ٱِتْبَعُوا ٱلسَّلَامِ مَعَ ٱلْجَمِيعِ“. والسلام في المسيحية أيضًا يشمل الكل: “وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هٰكَذَا؟”، بل أكثر من هذا: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ.أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ”. وفي الإسلام، السلام من أسماء الله: {ٱللهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ}، ودعوة: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْٱدْخُلُوا فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً}؛ وأيضًا: {يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ ٱللهِ أَتْقَاكُمْ}، وفي الحديث: «أَفْشُوا ٱلسَّلَامَ بَيْنَكُمْ». إن السلام هو دعوة إلهية، ووصية لن تتمكن الأسرة الإنسانية في العالم بأسره أن تحيا دون تنفيذها، إذ بلا سلام تنزلق الإنسانية إلى هُوة عظيمة ودمار للعالم، وأدين كل ما هو اعتداء على مدني سواء قتل أو أسر أو اغتصاب، فالإنسانية هي الأهم.
وللحق، فإن ما يُرى الآن من تصعيد عسكريّ في “فلسطين” لهو أمر يندى له الجبين الإنسانيّ.فالمجازر التي حدثت والتي تحدث هي رد فعل غاشم لفعل أغشم صدر نتيجة قمع 70 سنة أدى إلى انفجار كان نتيجته ما نراه الآن. وأعلن بضمير خالص أمام الله تضامني مع القضية الفلسطينية. فإن ما يجري الآن من تصعيد هو كارثة إنسانية مرعبة قد تؤول إلى إطلاق شرارة حرب عالمية ثالثة لن تترك العالم إلا دمارًا. ولا شعب في العالم أغضب الله أكثر من الشعب اليهودي،الذي لم يكُندخوله إلى أرض “فلسطين” بوعد من الله، بل بوعد من “بلفور”! ومنذ ذلك الحين و”إسرائيل” تحمي احتلالها بالقوة العسكرية وبسفك الدماء.إن تهافت بعضٍ على التعامل مع “إسرائيل” جعلها تفرط في شروطها. والسلام الحقيقي لا يتحقق بفرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية. والعدوان الإسرائيلي على أرض “فلسطين” ومحاولات تهجيره قسرًا إبادة للفلسطينيين. ولا يقبل كائن تجري فيه دماء الإنسانية إبادة أيّ شعب من شعوب الأرض، ولذاالمجتمع الدولي مطالَب بحق الفلسطينيين: أن تكون لهم دولة مستقلة ذات سيادة.
وأود الإشارة هنا إلى أهمية “قمة القاهرة” للسلام وخارطة الطريق لمحاولة إنهاء مأساة الشعب الفلسطينيّ، التي تشير إلى ضمان التدفق الكامل والآمن والسريع للمساعدات الإنسانية إلى أهل “غزة”، ثم الانتقال السريع إلى التفاوض بشأن تهدئة الموقف وإيقاف إطلاق النار، مع البدء العاجل في مفاوضات لإحياء عملية السلام وصولاًإلى إعمال حل الدولتين: إقامة دولة “فلسطين“ المستقلة التي تعيش جنبًا إلى جنب مع “إسرائيل”. وأخيرًا العمل بجدية على تدعيم السلطة الفلسطينية للاضطلاع بمهامها كاملاً في الأراضي الفلسطينية.
لن تفتر صلواتنا إلى الله حتى يرفع العناء عن الشعب الفلسطينيّ، ويمُنّ بسلامه على منطقة الشرق الأوسط وسائر العالم، وينجي البشر من ويلات الحروب. و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ