تحدثنا فى المقال السابق عن مصر بلد التعددية، وبدأنا بتعدد الحضارات؛ فقد بدأت الحضارة منذ القِدم على أرضها، واستوعبت العديد من الحضارات، التى ميزت شخصية الإنسان المِصرى، وتحدثنا عن الحضارة الفِرعَونية القديمة فى الدولة القديمة، واليوم نستكمل مسيرة هذه الحضارة على أرض مِصر.
وبحسب ما ذكرنا فإنه مع نهاية المملكة القديمة، وسقوط الأسرة السادسة انتشرت الفوضى فى البلاد، وعادت مِصر إلى ما كانت عليه قبل توحيدها فى عهد الملك مينا، ودخلت فى فترة من القحط والحروب من الأسرة السابعة وحتى العاشرة، ثم أُعيد توحيد الأرضين، وبدأ عصر نهضة ثقافية واقتصادية عُرفت بِاسم «الدولة الوسطى».
الدولة الوسطى (2060 ق. م.–1785 ق. م)
تُعد الدولة الوسطى ـ التى حكم مِصر خلالها الأسرتان الحادية عشرة والثانية عشرة ـ دولة مزدهرة. فقد وُحِّدت البلاد مرة أخرى، ثم تلا التوحيد عصر ساد فيه الرخاء والأمن والاستقرار، مما أدى إلى ازدهار الأدب؛ وفن القصة خاصة.
كما شُيِّد تراث بديع من فنون العمارة والهندسة والنحت، التى انتشرت فى البلاد.
ووُضعت خُطة لاستصلاح الأراضى، ووُضعت أنظمة للرى لزيادة الإنتاج الزراعى، وقد شُقت قناة تصل النيل بالبحر، وأُقيم مقياس للنيل.
كذلك استعاد الجيش منطقة النوبة الغنية بالمحاجر والذهب، وكُون هيكل دفاعى فى شرق الدلتا، لصد الهجمات الخارجية، وجرى اهتمام بأمن مِصر الجنوبية من خلال بناء تحصينات دفاعية، وازدهرت البلاد بدرجة كبيرة فى الفن والدين؛ فى ظل الأمن العسكرى والسياسى والزراعى.
د. الأسرة الحادية عشرة:
بدأت هذه الأسرة بالسيطرة على مِصر العليا، ثم امتدت سيطرتها على باقى مِصر حتى تم توحيد البلاد مرة أخرى على يد «منتوحوتب الثانى»، الذى يُعتبر أشهر ملوك هذه الأسرة. فقد أعاد وَحدة مِصر، ولمّ شمل البلاد، وتبِعه عدة ملوك اهتموا بإرساء هذه الوَحدة، والقضاء على أى حروب بين الأهالى.
هـ. الأسرة الثانية عشرة:
تعتبر فترة حكم الأسرة الثانية عشرة من الفترات الزاهية جدا فى التاريخ المِصرى. وأول ملوك هذه الأسرة هو «أمنمحات الأول»، الذى اهتم بتأمين حدود البلاد، وكان عهده عهد أمان وسلام ونظام.
وتبِعه ملوك ساروا على دربه؛ من أشهرهم «سنوسرت الأول» و«سنوسرت الثالث» و«أمنمحات الثالث» فقد سيطروا على حدود البلد، واهتموا بالعمل فى المناجم، وقد قام «سنوسرت الثالث» بحفر قناة شرق الدلتا بين خليج السويس ونهر النيل. أمّا أمنمحات الثالث فقد كان صاحب فكرة خزان كبير لحفظ مياه النيل وقت الفيضان، ونفذها فعلاً بالقرب من الفيوم.
و. الفترة الانتقالية الثانية:
ساد عصر من الضعف والانحلال والفوضى بعد الأسرة الثانية عشرة، كما سادت ثورات وحروب أهلية واختفاء للأمن فى البلد نتيجة التصارع على السلطة.
كل هذا أدى إلى احتلال الهكسوس مِصر، وكان ذلك من الأسرة الثالثة عشرة وحتى الأسرة السادسة عشرة، ثم تم طردهم من مِصر فى عصر الأسرة السابعة عشرة، وقد استمرت قرابة 225 سنة.
ز. الأسرتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة:
تصارعت الأسرتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة على حكم مِصر، حتى إن إحداهما حكمت الجنوب، والأخرى الدلتا، فعاد التفكك والانقسام إلى البلاد، وكان نتيجة هذا الاضطراب أن غزتها قبائل من آسيا؛ أقامت أولاً فى الدلتا، ثم انتشرت فى البلاد كلها عُرفت بالهكسوس.
ح. الهكسوس والأسر من الخامسة عشرة وحتى السابعة عشرة:
قلَّد الهكسوس نماذج الحكم المصرى؛ فأسسوا سلطة، واتخذوا لأنفسهم لقب ملوك مِصر، واستمروا فى مِصر خلال حكم الأسر من الخامسة عشرة وحتى الأسرة السابعة عشرة، وقد حاولوا التقرب إلى المِصريين، الذين لم ينخدعوا بمثل هذه الأساليب.
أمّا الفراعنة فقد تركزوا فى طيبة محاولين الاستعداد، والتسلح لتحرير البلاد، وبعد صراع طويل من الأسرة السابعة عشرة فى عهد الملك «سقنن رع الثانى»، حيث كانت طيبة قد تقوت، وتم الصدام مع الهكسوس، وقد حقق «سقنن رع الثانى» بعض النجاح فى صراعه مع الهكسوس إِلا أنه لم يعش طويلاً، وخلفه فى عرش طيبة ابنه الأكبر كاموس، الذى تابع الصراع لطرد الهكسوس.
وقد تم القضاء على الهكسوس نهائيا فى مِصر على يد «أحمس الأول»، الذى قام بطردهم من البلاد، وتتبُّعهم حتى سوريا.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت العسكرية أولوية رئيسية بالنسبة إلى الفراعنة، الذين سعَوا إلى توسيع حدود مِصر، وتأكيد هيمنتها الكاملة فى الشرق الأدنى.
الدولة الحديثة (1580 ق. م.–1075 ق. م)
تبدأ الدولة الحديثة، التى سُمى عصرها بعصر المجد الحربى، وعصر الإمبراطورية بعد طرد الهكسوس من مصر، وامتدت فى عصر الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة.
أرسى فراعنة المملكة الجديدة فترة ازدهار غير مسبوقة بتأمين حدود البلاد، وإحكام السيطرة عليها، وتعزيز العَلاقات الدبلوماسية مع جيرانها.
كذلك شنت الحملات العسكرية، ومدت نفوذها فى سوريا، وأخضعت بلاد النوبة. أيضًا أُرسل أضخم أسطول بحرى للتجارة إلى بلاد «بونت» (الصومال) مكونًا من 50 سفينة. وأصبحت مِصر فى ذلك الوقت صاحبة النفوذ فى غرب آسيا، ومدن فلسطين وسوريا، وجزر البحر المتوسط، ومع أن هذه السيطرة قد فُقدت وسقطت الإمبراطورية على يد الحيثيين، إلا أنه تمت استعادة فلسطين، وطُرد الليبيون من غرب الدلتا، واستُعيدت مكانة مِصر أيام مجدها الحربى، وباستقرار الأمن فى مِصر جرى اهتمام بالبناء، وشيدوا الصروح لتمجيد الإنجازات الخاصة بهم، كما اهتموا ببناء المزيد من المعابد، وإقامة المزيد من التماثيل والمسلات، وظهرت أول معاهدة سلام عرفها التاريخ، والأقدم على الإطلاق.
ط. الأسرة الثامنة عشرة:
يعتبر المؤرخون أن مؤسس الأسرة الثامنة عشرة ـ التى حوت عددًا ليس بقليل من الملوك البارزين فى التاريخ المصرى ـ هو الملك «أحمس» طارد الهكسوس، الذى قام بتأمين حدود البلاد والنوبة، وأخضع العديد من البلاد للحكم المصرى، ثم بدأ فى الاهتمام بالإصلاحات الداخلية لمصر، التى اهتم بها خلفاؤه من بعده؛ ومنهم الملك «تحتمس الثانى»، الذى وصل بالجيش إلى سوريا والفرات والحبشة جنوبًا؛ إذ كان لمصر آنذاك جيش قوى مدرب، بسبب الحروب التى اشترك فيها.
أمّا الملكة «حتشبسوت»، زوجة الملك «تحتمس الثانى»، فقد حكمت البلاد بعد موته كوصية على العرش لابنه «تحتمس الثالث»، وقد اهتمت بالأمور والبناء الداخلى لمصر، وأرسلت بَعثة تِجارية إلى بلاد «بونت»، ويُعدها المؤرخون من الملكات، التى أدرات مصر بحكمة.
ويُعَد عصر حكم الملك «تحتمس الثالث» من العصور الزاهية جدا للتاريخ العسكرى المصرى، الذى وصلت فيه سلطة مصر إلى كردستان وأرمينيا فى آسيا الصغرى، مرورًا بسوريا وفلسطين، وجنوبًا إلى الحبشة.
وأيضًا من ملوك هذه الأسرة البارزين «أمنحوتب الثالث»، وكان يحمل شخصية بارعة فى السياسة وإدارة البلاد والشؤون العسكرية، وقد استطاع بمهارة الحفاظ على توسعات الإمبراطورية المِصرية المترامية باقتدار شديد، وقام بأعمال بناء وتشييد فى البلاد.
أمّا الملك «أمنحوتب الرابع» ـ الذى أطلق على نفسه اسم «إخناتون»، فهو من اهتم بالشؤون الدينية، ونادى بالتوحيد، وعبادة الإله الواحد، الذى اعتبره «آتون» إله الشمس، ولكن عاد خلفاؤه إلى الديانات القديمة، وعبادة «آمون» بعد موته.
وتنتهى الأسرة الثامنة عشرة بالملك «حُور مُحِب»، الذى قام بإعادة تنظيم أمور البلاد؛ خاصة بعد التقلبات الدينية التى اعترتها، وأرسل بَعثات إلى النوبة، واهتم بالتشييد والبناء داخل مصر، وأيضًا أصدر قوانين لحماية الضعفاء والقضاء على العنف.
ى. الأسرة التاسعة عشرة:
اعتبر المؤرخون الملك «سيتى الأول» ليس أحد أعاظم ملوك الأسرة التاسعة عشرة أهميةً فحسب، بل أيضًا واحد من عظماء الملوك فى تاريخ مِصر. فقد قام بإقرار الأمن والسلام والرخاء فى مِصر، كما قام بحفر قناة بين نهر النيل والبحر الأحمر، واهتم أيضًا بالتشييد والبناء وإقامة المسلات.
وأيضًا من ملوك هذه الأسرة المهمين الملك «رمسيس الثانى» صاحب أول معاهدة سلام فى التاريخ فى معركة «قادش»ـ بعد حروب دامت طويلاً مع البلاد الآسيوية الخاضعة لمصر؛ خاصة الحيثيين، وبعد فترات طويلة أمضاها «رمسيس الثانى» فى الحروب، اتجه إلى الاهتمام بالبلاد داخليا وبازدهارها من خلال البناء والتشييد، وسَن القوانين، والشرائع.
ويُعتبر «مرن بتاح» هو آخر الملوك الأقوياء لهذه الأسرة، وقد حاول الحفاظ على انتصارات الملوك سابقيه، لكن لم يهتم بتدريب الجيوش مما عرض مِصر لخطر الاستعمار؛ لولا استعانته بقواد جيوش «رمسيس الثانى»، الذين أداروا المعارك بنجاح وانتصار حفِظ للبلاد أمنها.
ك. الأسرة العشرون:
بدأ حكم هذه الأسرة بعد عدد من الحكام الضعفاء فى الأسرة التاسعة عشرة، وكانت هذه الأسرة ما بين أوج المملكة المصرية وفترة الانتقال الثالثة، ويُعد أهم وأعظم ملوك هذه الأسرة الملك «رمسيس الثالث»؛ الذى أعاد النظام إلى البلاد، وصد هجمات الأعداء عن مِصر، فساد البلاد السلام والأمن. شيَّد العديد من الأبنية، ومما يُذكر أيضُا له أنه قام بحماية التجارة والصناعة المصريتين، ومع نهاية هذه الأسرة كانت مِصر قد أصابها انهيار داخلى كامل، وفقدت كل سيطرتها على الخارج، بل تعرضت لهجمات الأعداء.
ل. الفترة الانتقالية الثالثة:
استمرت الفترة الانتقالية الثالثة نحو 420 عامًا فى فترة حكم الأسر من الواحدة والعشرين، وحتى نهاية حكم الملوك الفراعنة فى الأسرة الثلاثين.
وفى الفترة من الأسرة الواحدة والعشرين حتى الأسرة السادسة والعشرين تعرضت البلاد إلى انهيار فى كل المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وحل الضعف، وفقدت مصر سلطانها على سوريا وفلسطين، ولم يبقَ لها سوى بلاد النوبة، وكانت ثروة مصر ونماؤها الاقتصادى الاجتماعى سببًا فى جعل مصر وأرضها أرضًا مغرية على الغزو من القوى الأجنبية، وزاد تأثير التهديدات الخارجية مع تفاقم المشكلات الداخلية.
أمّا فى عصور الأسر من السابعة والعشرين حتى الأسرة الثلاثين فكانت مصر تحت حكم الفرس، الذى انتهى بفتح مصر على يد الإسكندر الأكبر؛ ليبدأ عصر جديد يحمل حضارة جديدة للإنسان المصرى و… والحديث عن مِصر لا ينتهى!