تحدثنا فى المقالات السابقة بإيجاز عن الحضارة المصرية، حيث كان لطبيعة مِصر الجغرافية ونهر النيل أكبر الأثر فى تكوين المجتمعات التى استقرت فى الوادى. وقد عمِل المصرى القديم وطوَّر فى مجالَى الزراعة وتربية الماشية، بالإضافة إلى استخراج المعادن والصناعات المصرية المتميزة ـ مثل القيشانى المِصرى ـ ومجال التجارة مع الدول الأخرى.
وشملت الحضارة المِصرية مجال العلوم، حيث استطاع علماؤها الرياضيون والمعماريون أن يُشيِّدوا الأبنية الضخمة التى مازالت تشهد لعبقرية المصرى القديم وبراعته، كما تُظهر الآثار الخالدة. وأيضاً فى العلوم العلمية، مثل التشريح والتحنيط – الذى لايزال سراً محيراً- واللذين كان لمصر فيهما مكان الصدارة فى العالم القديم.
قدم أبناء الحضارة المصرية الفِرعونية اختراع الكتابة الذى غيَّر وجه العالم. كذلك كان لهم تميز فى الآداب، التى قدَّموا فيها فن القصة، والأدب الدينى والأخلاقى. وأيضاً دوَّنوا التاريخ والأحداث التى مروا بها.
وتُعَد كلمات د. جون ويلسون ـ الذى كان مساعداً للمؤرخ الأمريكى چيمس هنرى برستد، وعمِل أستاذاً لعلوم التاريخ والآثار المصرية فى جامعة شيكاغو ـ من أدق ما قرأت عن الحضارة الفرعونية: «إننا مدينون فى كثير من النُّظم والأوضاع لحضارة مثل حضارة مِصر.. وفضلاً عن ذلك، فإن المصريين والبابليين سبقوا العبرانيين والإغريق فى جميع مرافق الحياة: فى الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، وتذوق الجمال، والفلسفة، والأخلاق. وجاء مِن بعدهم من بنَوا حضاراتهم عليها أو عدَّلوا فيما ورثوه. إن مرونة الأسلوب المصرى والوسائل التى اتَّبعوها للحصول على السلام والأمن وإيجاد التوازن الموفِّق بين القوى المتعارضة تشهد للمصريين أنهم كانوا شعباً عظيماً متفوقاً فى نبوغه».
وقد استمرت هٰذه الحضارةـ خلال حكم الملوك الفراعنة على مِصرـ على مدى ثلاثين أسرة خلال ثلاثة آلاف عام، قسَّمها المؤرخون إلى عصور: الدولة القديمة، والدولة الوسطى، والدولة الحديثة. وبين كل عصر وآخر فترة انتقالية اتسمت بالضعف والانقسام والتدهور. وقد انتهت هٰذه الفترات بالفترة الانتقالية الثالثة، التى تعرضت فيها البلاد إلى ضعف وانهيار فى جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وازدياد التهديدات الخارجية على مِصر، وذلك فى عصر الأُسر من الحادية والعشرين حتى السادسة والعشرين، ثم الوقوع تحت سيطرة الفرس من الأُسر السابعة والعشرين حتى الثلاثين.
2- الحضارة الإغريقية:
أ- فتح الإسكندر مِصر:
كان الفرس هم عدو مقدونيا والإغريق الأول، ولكن ضعف المدن اليونانية وانقسامها جعلاها لا تستطيع مواجهة هذا العدو القوى الذى يحكم إمبراطورية كبيرة ويتمتع بسيادة البحار. وقد قام «فيليب»، ملك مقدونيا، بمحاولة للتوحيد، بإخضاع المدن اليونانية تحت سلطانه استعداداً لغزو الفرس، إلا أنه تعرض للاغتيال.
سار ابنه «الإسكندر» على نهجه، فقاد الحرب ضد الفرس، فكوَّن جيشاً منظماً انطلق به من مقدونيا ليبدأ حُلم الإمبراطورية الذى كان يراوده لنشر الثقافة الإغريقية، ولكى يصبح سيد العالم. وحيث إن الفرس كانوا يعتمدون على موارد إمبراطوريتهم الكبيرة والسيادة البحْرية العظيمة لهم، فقد بدأ الإسكندر بالاستيلاء على قواعد الأسطول الفارسى، وهكذا أخضع شواطئ آسيا الصغرى وفينيقيا ومِصر وبَرقة.
عند وصول الإسكندر إلى مِصر بعد الاستيلاء على صُور وصيدا وفلسطين وغزة من المَلك الفارسى «دارا»، قام الحاكم بتسليمها إليه دون معارك. وقد رحَّب المصريون بالإسكندر، منقذهم من الحكم الفارسى. وبطرد الفرس من مِصر طُويت صفحة من تاريخ مِصر امتدت ثلاثة آلاف عام، لتبدأ صفحة جديدة تَخُطّها الحضارتان المِصرية والإغريقية معاً جنباً إلى جنب.
ب- الإسكندر الأكبر:
كان الإسكندر الأكبر عبقرية عسكرية وسياسية ندُر أن يكون لها مثيل، وقد كان معروفاً بذكائه الشديد وقدرته الفائقة على التعامل مع المشكلات، فكان له دور فى مساعدة أبيه فى إدارة مملكة مقدونيا وهو لايزال فى السادسة عشرة، ثم أصبح قائداً له صيت عالمى وهو فى الثامنة عشرة، بينما صار ملكاً وهو فى العشرين.
وعن ذكاء «الإسكندر» وبراعته قرأت إحدى القصص عنه وهو لايزال صبياً:
ففى أحد الأيام قرر «فِيلونِيكُس» التسالونيكى ـ وهو الرجل المسؤول عن «اسطبلات» خيول الملك ـ أن يقوم ببيع فرس متمرد وعنيف جداً لم يستطِع أحد أن يروضه أو يمتطيه، فجاء إلى الملك لإخباره بما ينوى فعله.
عندما سمِع «الإسكندر» ذلك أعلن لأبيه رغبته فى الذهاب مع « فِيلونِيكُس» لرؤية الفرس الجامح. حاول الملك «فيليب» أن يُثنى ابنه عن رغبته لئلا يُصاب بأذى من الفرس، لكنه طمأن والده قائلاً: لا تخَف يا والدى، فإن لكل عنف سبباً، وسأحاول أن أروضه! لٰكن الملك اعترض على ابنه بأن خبرته أقل من « فِيلونِيكُس» الذى أمضى غالبية أيامه فى ترويض وتدريب الحيوانات والخيول خاصة، ومع هذا لم يُفلِح فى ترويض الفرس.
طلب «الإسكندر» من والده فرصة لمعرفة سبب تمرد الفرس وعنفه ـ مع أنه لم يتدرب على ترويض الخيل ـ فوافق أبوه. ذهب الصبى «الإسكندر» مع مدرب الخيل العظيم «فِيلونِيكُس» إلى اسطبل الخيل، وبمجرد أن اقترب المدرب ليمسك بالفرس ثار الفرس جداً وصار الوضع خطيراً. أسرع الصبى «الإسكندر» نحو الفرس ممسكاً بلجامه مغيراً اتجاه رأسه. فما كان من الفرس إلا أن صار هادئاً، وامتطاه «الإسكندر» وقاده دون جَهد. وحينما ذهب به إلى والده، هنأه على قدرته على ترويض الفرس فى وقت قصير، وسأله: ماذا فعلت يا بنى؟ أجاب «الإسكندر»: إن الأمر بسيط جداً، لقد كان الفرس يرى ظله فيخاف منه، فعندما حوَّلت رأسه نحو الشمس صار ظله تحت قدميه فضاع الخوف منه وصار هادئاً.
وأيضًا يُعرف عن «الإسكندر» أنه كان شغوفاً بالعلم، محباً لجميع أنواع المعارف وقارئاً نَهماً لكل أنواع الكتب. وكان يَسعَد بالحديث إلى الطلاب والعلماء، خاصة بعد أن يقضى يوماً فى السير أو القتال.
و«الإسكندر» كان تلميذاً للعالم الكبير والفيلسوف العظيم «أرسطو»، فكتب إليه «الإسكندر» ذات يوم يقول: «خير لى أن أتفوق على غيرى فى العلوم من أن أتفوق عليهم فى اتساع المُلك وقوة السلطان».
ج- مِصر ولاية مقدونية:
حرِص «الإسكندر» على أن يتوج فتوحاته بإرضاء أهل البلاد التى يدخلها، كما أنه حرِص على إبداء احترام دياناتها. فقد أظهر احترامه للديانة المِصرية القديمة بمجرد دخوله إلى مِصر ووصوله إلى منف، فقدّم قرباناً للعجل المقدس وباقى الآلهة التى يعبدها المِصريون. كذلك توج نفسه فى معبد «فتاح» (Ptah) مثل الفراعنة القدماء. وذلك حتى يَظهَر كخليفة شرعى للفراعنة فيضمن ولاء المصريين وإخلاصهم وخضوعهم.
كذلك ذهب «الإسكندر» إلى معبد «آمون» فى واحة سيوةـ الذى نال شهرة عالمية تعادل شهرة معبدَى «زيوس» و«أبوللو»ـ فقد كان يهدف إلى إثبات صلة نسبه إلى الآلهة أمام العالم، وأيضاً رغبته فى الحصول على تأييد الإله «آمون» فى مشروعه لبسط سيطرته على العالم. إلا أن «الإسكندر» لم يتنصل من حضارته الإغريقية، ولم ينسَ أنه يحمل لواءها فأقام أكثر من حفل إغريقى فى منف، وقدَّم القرابين للإله الإغريقى «زِيوس».
وفى حكم مِصر أدرك «الإسكندر» أهمية دور الكهنة فى مِصر، فهم الذين ساندوا الفراعنة قَبله فى حكمهم، لذا لجأ إلى الكهنة وقام بتدعيمهم. كما قام بتنظيم لقاءات سنوية يلتقى فيها كل من الملك وكبار رجال الدولة والكهنة لتبادل الآراء فيما يخص البلاد، وبذلك يستطيع قيادة الشعب الذى يخضع للسلطة الدينية. وبهذا وجد كهنة آمون الفرصة لاسترداد سلطتهم، واستعادة حق الانتفاع بالأملاك الإلهية التى نُزعت منهم. وفى هذه الفترة أُعيد تشييد أكبر المعابد فى مِصر من فِيلة حتى الدلتا.
د- مدينة الإسكندرية:
قام الإسكندر بتأسيس مدينة الإسكندرية فى مِصر، فقد اختار قطعة أرض لها موقع استراتيجى بين بحيرة مريوط والبحر المتوسط لبناء مدينة جديدة تماثل المدن المقدونية، لتصبح مركزاً جديداً لتجارة الشرق والغرب. وأسند مهمة تخطيط المدينة للمهندس اليونانى «دِينوقراتيس». وقد أصبحت الإسكندرية مركزاً ثقافياً عالمياً للعلوم والمعارف فى القرن الثالث ق. م.، ونقطة التقاء الشرق والغرب، ما جعلها القطب الثانى فى إمبراطوريته المتسعة. وزاد الإقبال عليها من قِبل الطلاب والعلماء، إذ صارت مناراً ومنبعاً للثقافات والعلم.
وقبل أن يغادر «الإسكندر» مِصر عام 331 ق. م.، كانت مِصر قد أصبحت ولاية مقدونية منظمة بأسلوب دقيق إلى أقصى مدى. وقد اهتم بأن يكون لها جيش وأسطول لحمايتها. كما أرسل بَعثة لاستكشاف منابع النيل.
النظام الذى وضعه «الإسكندر» كان يعتمد على تقسيم السلطة بين عدة حكام حتى لا ينفرد أو يستبد حاكم واحد بالسلطة. وقد اختار مصريين ليوليهما حكم الوجهين البحْرى والقبلى مُظهراً عطفه على المصريين. وقد أطلق للمصريين حرية العبادة ولم يغير شيئاً من عوائدهم الدينية أو المدنية.
غادر «الإسكندر» تاركاً ولاية مِصر للأمير «اقليومينوس»، وسار بجيشه إلى آسيا للاستيلاء على ولايات الإمبراطورية الفارسية حتى وصل إلى الهند، ثم توجه إلى بابل حيث تُوفى فيها وهو لايزال شاباً فى الثلاثينيات وفى أَوْج مجده عام 323 ق. م. وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يسعى لبناء عالم يندمج فيه الشرق والغرب كإمبراطورية واحدة على أساس من الأُخُوّة.
ويُحكى أن «الإسكندر» وهو على فراش المرض كانت له ثلاث أمنيات طلب إلى قائد جيشه تحقيقها له. كانت وصيته الأولى ألا يحمل نعشه عند الدفن إلا أطباؤه، والوصية الثانية أن يُنثر على الطريق من مكان موته حتى المقبرة قطع الذهب والفِضة والأحجار الكريمة التى جمعها طوال حياته، أمّا الوصية الأخيرة فهى أنه حين يُرفع على النعش يُخرجون يديه من الكفن، ويُبقونهما معلقتين إلى الخارج وهما مفتوحتان!
سأله القائد عن مغزى أمنيات الملك الثلاث، فقال: أريد أن أقدم إلى العالم درساً لم أُدركه إلا الآن. فبالوصية الأولى أريد أن يعرف الناس أن الموت لا يرده أحد حتى الأطباء الذين نلجأ إليهم متى أصابنا مكروه، فالصحة والعمر ثروة لا يمنحهما أحد من البشر. أمّا الوصية الثانية فحتى يعلم الناس أن كل وقت قضَّيناه فى جمع المال ليس إلا هباءً يُلقى، وأننا لن نأخذ معنا حتى فتات الذهب. أمّا الوصية الثالثة فلكى يعلم الناس أننا قدُمنا إلى هذه الدنيا فارغى الأيدى، وسنغادرها فارغى الأيدى.
وبموت «الإسكندر» سُرعان ما تفككت إمبراطوريته وقامت عدة ممالك، وبدأت فى مِصر دولة البطالمة الذين حكموا البلاد إلى الحكم الرومانى و… والحديث عن مِصر لا ينتهى!