No Result
View All Result
تحدثنا فى المقالة السابقة عن معاناة المِصريين أثناء الحكم الرومانى البيزنطى على مِصر على المستويات: الاقتصادى، والاجتماعى، والدينى. وفى تلك الحُقبة عانى قِبط مِصر من اليهود معاناة شديدة إذ استخدموا الفرص المواتية لهم لقلب الحكام على القِبط وقتلهم. كذلك تحدثنا عن الشدائد العظيمة التى تعرض لها قِبط مِصر من الأباطرة البيزنطيِّين التى بدأت من أيام البابا «ديسقوروس» البطريرك الـ25، فقد ذكرت كتب التاريخ أن الذين استُشهدوا يُعدون بالآلاف، وقيل إنهم 24 ألف مِصرى. وفى عصر البابا «تيموثاوُس» البطريرك الـ26، انشقت أسقفية الإسكندرية إلى سلسلتين من البطاركة: الأولى الملكانيِّين وكانوا من الروم وتجرى رسامتهم فى القسطنطينية ويؤمنون بقرارات مجمع «خَلقيدونية»، والثانية الأُرثوذُكس وكانوا من قِبط مِصر ويرفضون ما يخالف الإيمان الأُرثوذُكسى. وقد استمر الضغط على بطاركة الإسكندرية حتى جاء الغزو الفارسى.
وقد وُجدت مخطوطة فيها نبوءة لـ«أنبا شنودة» رئيس المتوحدين عن مجىء الفرس إلى مِصرـ ومن المعروف أن «أنبا شنودة» تنيح قبل مجىء الفرس بقرابة 160 عاماً ـ قال فيها: «سيأتى الفرس إلى مِصر يسفكون فيها الدماء، ويسلُبون أموال المِصريِّين، ويَسبُون نساءهم، ويبيعونهم بالذهب، فإنهم قوم ظالمون معتدون. وستنزل المصائب على أيديهم بمِصر، يغتصبون الكنائس وما بها من آنية مقدسة، ويشربون الخمر فى المحراب غير مبالين، ويهتكون أعراض النساء على مرأى من رجالهن!! وسيبلغ الشر أعظمه والشقاء أقصاه. سيَهلِك ثلث من يبقى من الناس فى بؤس وعذاب. وسيبقى الفرس فى مِصر حيناً من الدهر، ثم يخرجون منها».
وبعد عودة مِصر إلى الروم، كان من وِجهة نظر الروم إخضاع مِصر للمذهب الملكانى، إذ لمِصر أهمية خاصة لدى الإمبراطورية البيزنطية، فهى التى تمُدها بالقمح والغلال. فجرى تعيين «سيروس» المقوقس نائباً عن هرقل فى الحكم، مع إعطائه منصب بطريرك الإسكندرية. وقد عانى قبط مِصر الشدائد العظيمة، وكان من الذين استُشهدوا على يديه «مينا» شقيق البابا «بنيامين» البطريرك الثامن والثلاثين، الذى وُضعت المشاعل تحت جنبَيه، وقلِّعت أضراسه وأسنانه باللَّكم، ثم أُغرق فى النيل. ويذكر المؤرخون أن المقوقس جال فى المدن لمصادرة ممتلكات الكنائس، وإيقاع العذابات على كل من يخالفه، فأصبح ذكر اسمه، فقط، يسبب فزعاً شديداً بين الشعب!! وكان أحد الذين عانَوا اضطهاده هو القديس «أنبا صَمُوئيل» الملقب بالمعترِف، الذى تحتفل الكنيسة القبطية بذكرى انتقاله فى الثامن من كيهك الموافق السابع عشَر من ديسمبر.
عاش «أنبا صَمُوئيل» مرحلة كانت تتعرض فيها حياة أصحاب الإيمان السليم للخطر، إذ يُستشهدون أو يُتَسبَّب لهم عاهات جسدية نتيجة العذاب الشديد الذى يتعرضون له، وهكذا أصبح صاحب الإيمان المستقيم يجازف بحياته فى كل لحظة. وكان أحد هؤلاء «أنبا صموئيل» الذى لم يتراجع لحظة عن إيمانه بالرغم مما تعرض له من اضطهاد مرير وعذابات شديدة، بل اعترف به فى بسالة وشجاعة حتى إنه فقد عينه اليمنى.
وُلد «أنبا صَمُوئيل» عام 597م، وتنيح عام 695م، فامتدت حياته قرابة 98 عاماً عاصر خلالها ثمانية من الآباء البطاركة: البابا «دميان» البطريرك الـ35، وكان فى أيام الإمبراطور «يوستينوس قيصر الثانى»، والبابا «أنسطاسيوس» البطريرك الـ36 وكان فى عصر «فوكاس قيصر»، والبابا «أندرينيكوس» البطريرك الـ37 فى أيام الإمبراطور «هرقل» واحتلال الفرس مِصر، والبابا «بنيامين الأول» البطريرك الـ38، والبابا «أغاثون» البطريرك الـ39 فى خلافة «على بن أبى طالب»، والبابا «يوحنا الثالث» البطريرك الـ40 وكان فى عهد الخليفة «معاوية بن أبى سفيان»، والبابا «إسحاق» البطريرك الـ41، والبابا «سيمون الأول» البطريرك الـ42 اللذين كانا فى زمن خلافة «عبدالملك بن مروان». وقد عاصر «أنبا صَمُوئيل» أحداثاً تُعد من أهم الأحداث التى شهِدتها مِصر إذ كانت الحالة الدينية فيها مضطربة، فبعد مجمع خَلقيدونية الذى لم تعترف به الكنيسة القبطية فى أرض مِصر، حاول الأباطرة الرومان البيزنطيُّون بكل الوسائل الضغط على الكنيسة للاعتراف به. إلا أن الإيمان ظل محفوظاً فى قلوب القِبط ولا سيما الرهبان فى الأديرة، وكان أحدهم «أنبا صَمُوئيل».
وُلد «أنبا صَمُوئيل» فى قرية «دكلو» أو «دكلوبا» فى محافظة البحيرة، وتعلم فن نسخ: الكتب، وأقوال الآباء، وسيَر القديسين. ثم اشتاق إلى حياة الرهبنة، فوزع أمواله على الفقراء والمساكين، وتتلمذ على يد «أنبا أغاثون» الذى علَّمه أصول الحياة الرهبانية وآدابها. وبعد نياحة «أنبا أغاثون»، استمر «أنبا صموئيل» فى حياة الرهبنة فى «دَير أنبا مقار» بوادى النطرون، حيث نما فيها حتى أصبح أباً ومرشداً لكثيرين.
تتلمذ على يديه «أنبا يسطس» الذى كان من أولاد حكام أنطاكية، وجاء إلى الإسكندرية ليترهب فى برِّية شِيهِيت، وظل ملازماً «أنبا صموئيل» تلميذاً له حتى سُبى، ثم تنيح. وقد دوَّن سيرته أسقف البهنسا بعد أن قص أنبا صموئيل عليه قصة حياته.
وبعد عودة الروم وحكم مصر ثانية فى عام 627م، حاول الإمبراطور «هرقل» نشر أفكار مجمع خَلقيدونية فى مِصر، فبدأ بالتحرك بجيوشه تجاه مِصر. فظهر ملاك الله للبابا «بنيامين» وأعلمه بما ينوى «هرقل» عمله، وأمره أن يهرُب من كرسيّه، فذهب إلى مريوط ومنها إلى شِيهِيت، ثم صَعيد مِصر. وعندما حضر «المقوقس»، بدأ يقدم إغراءاته إلى القبط ليقبلوا إيمانه فلم يُذعنوا له، فتحول إلى استخدام أساليب المكر والخداع والعنف معهم، ثم اتجه إلى الأديرة لإجبار الرهبان على قَبول هذا الإيمان. وعند وصول جنود المقوقس إلى دَير القديس «مقاريوس»، احتلوا الدَّير، وجمع قائدهم الرهبان وقرأ عليهم قرارات مجمع خَلقيدونية فى الطومُس المعروف باسم «طُومُس لاوُن» وهو الرسالة التى كتبها البابا «لاوُن الأول» أسقف رومية وأرسلها إلى أسقف القسطنطينية «فلافيان». وطلب القائد من الرهبان التوقيع على هذا الطومُس، وكان «أنبا صموئيل» آنذاك هو الأب الروحى لرهبان البرية، فما كان منه إلا أن وقف بشجاعة أمام القائد وقال: «محروم مجمع خَلقيدونية، ومحروم (لاوُن) المخالف، ومحروم كل من يؤمن بأمانته (إيمانه) الفاسدة! ونحن لا نَدين بالولاء إلا لأبينا العظيم (أنبا بنيامين) البطريرك الخاص بنا قِبطاً».
غضِب القائد وبدأ يكيل التهديد والوعيد لـ«أنبا صموئيل». وبعد مدة، طلب الرسالة فى هدوء شديد، فقدمها إليه القائد ظاناً أنه نجح فى إقناعه بالتوقيع. فقام «أنبا صموئيل» بتمزيق الطومُس أمام القائد، مؤكداً رفضه الرسالة. أمر القائد بتعذيب «أنبا صَمُوئيل»، فضُرب بالسياط، وأصابت إحدى الضربات عينه اليمنى فأفرغتها تماماً!! ولكنهم استمروا فى ضربه وتُرك بين حى وميّت. ثم أصدروا قراراً بطرده من الدير. وبعد أن استعاد وعيه، ظهر له ملاك الله وطلب منه الذهاب إلى الفيوم للاعتراف بالأمانة المستقيمة.
لم يجد المقوقس طريقة للتأثير فى رهبان برِّية شِيهِيت، فذهب بجنوده إلى رهبان الفيوم، وعندما وصلوا لم يجدوا الرهبان إذ طلب «أنبا صَمُوئيل» منهم الهروب من الدير لحفظ الإيمان. وما أن علِم القائد، حتى استدعى «أنبا صَمُوئيل» ليذيقه ألواناً جديدة من العذابات، فقد أمر بربطه فى حديد ثم قدموه إلى المقوقس. وفى المقابلة سأله المقوقس: «من الذى جعلك مدبراً للرهبان؟ كيف تلعن مذهبى وتحرمه؟ لقد ملأك الغرور بسبب طاعة الرهبان لك، وسأعلِّمك الوقوف أمام العظماء. كيف يتسنى لك ألا تؤمن بعقيدة رئيس الأساقفة الموجود (يقصد ذاته)؟» وبعد أن فرغ من كلامه، قال «أنبا صَمُوئيل»: «ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس… فلا طاعة علينا لك ولا لإيمانك الفاسد». اغتاظ المقوقس، وبدأ الجنود فى ضرب «أنبا صَمُوئيل» على فمه، وتعذيبه، بُغية قتله. حتى سمِع كبار رجال الفيوم بما يحدث، فتوسطوا عند المقوقس ليترك «أنبا صَمُوئيل». وبالفعل أنقذوه من يده بعد عذابات شديدة تسببت فى فقده إحدى عينيه، ولٰكنه لم يُستشهد، لذا تلقبه الكنيسة بالمعترِف، فالإنسان الذى تعرض لعذابات كثيرة وآلام بسبب إيمانه وثبُت عليه ولكنه لم يُستشهد تلقبه الكنيسة بـ«المعترِف» وتضعه فى درجة بعد الشهيد.
وبعد ذلك ذهب «أنبا صموئيل» إلى أحد جبال القلمون. ثم أرشده الملاك إلى دَير «القلمون» حيث كانت الرمال قد ردمت الكنيسة، فقام «أنبا صموئيل» بتنظيفها بمفرده. وعاش هناك مدة من الزمان حتى سُبى من البربر، ثم عاد بعد زمن إلى دَيره المعروف باسمه، الكائن حتى يومنا هذا. وقد وجدنا فى نبوءته ما نصه: «… لعلكم، يا أولادى، لم تسمعوا بالشرور التى عمِلها الهراطقة بالأرثوذكسيين من زمان الأب (ديوسقورس) إلى الآن، وكثرة الشرور التى عمِلوها بأبينا (أنبا ديوسقورس)، وكونهم نفَوه إلى الجزائر البعيدة، وجلوس (ابروداريوس) على كرسيّه وهو فى الحياة». وصُنع «ابروداريوس» هذا بالمَسيحيِّين شروراً كثيرة، فكان يطرد الأساقفة ويخرّب الأديرة. وأمّا «أوفيمانوس» ذو الإسكيم الزور، فإننى أسكت عنه ولستُ أستطيع أن أصف سوء أعماله التى صنعها بمدينة أورُشليم، وقتله للأرثوذكسيِّين. وما عمِله هذا الشكل الوحشى، غير المستوجب أن يُذكر اسمه، «قرياقوس» المقوقس، الطَّمِث (الدَّنِس) فى أعماله، هذا الذى ضيَّق على الأرثوذكسيِّين جداً، وكان يطردهم من مكان إلى مكان. وهو يجدّ بالجَهد العظيم فى طلب أبينا «أنبا بنيامين» إذ كان يَصِرّ بأسنانه عليه، ويقول ليتنى أجد ذا اللحية الكبيرة حتى آمُرَ برَجمه…». وقد ظل «أنبا صموئيل المعترف» بديره حتى تنيح بسلام.
إن ما لاقاه «أنبا صموئيل» من صُنوف الآلام وألوان العذابات الشديدة فاقت حد التصور!! وهى مثال فعلى لما تعرض له قِبط مِصر، الذين تمسكوا بإيمانهم أمام البيزنطيين وسَطوتهم وعنفهم. و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
No Result
View All Result