تحدثنا فى المقالة السابقة عن الفتح العربى للعراق والشام ومِصر الذى بدأ من العريش إلى «الفَرَما»، إلى «بلبيس»، مارًا بـ«القواصر» ثم «حصن بابليون»، مارًا بـ«عين شمس» و«أم دنين»، حتى الحصن الذى حوصر مدة طويلة. وبعد فتح «عمرو بن العاص» الحصن، اتجه إلى «الإسكندرية» حيث قضّى زمنًا حتى استطاع فتحها ليعود إلى «بابليون» ويقيم مدينة «الفسطاط».
وكما ذكرنا فى مقالات سابقة أن البطريرك القبطى «بنيامين»، البابا الثامن والثلاثين فى بابوات الإسكندرية، كان هاربًا إلى صعيد مِصر من وجه «المقوقس» الذى كان يسعى إلى قتله كما قتل أخاه.
البابا بنيامين الأول (623- 662م)
وُلد البابا «بنيامين الأول» فى بلدة «برشوط» (حاليًا «كفر مساعد» مركز «إيتاى البارود») من أبوين تقيين غنيين. ثم رغِب فى الحياة الرهبانية وأحبها منذ صباه، فترهب عند شيخ قديس يسمى «ثاؤنا» فى دير القديس «كانوبوس/قنوبوس» جوار الإسكندرية، قرب منطقة «أبى قير». بدأ فى النمو فى الفضيلة حتى بلغ درجات عالية فاستحق أن معلمه يقدمه إلى الأب البطريرك آنذاك البابا «أندرونيكوس»، السابع والثلاثين فى بابوات الإسكندرية، ليصير مساعدًا لقداسته. ثم رسمه البابا قَسًا، وسلَّمه أمور الكنيسة فأحسن تدبيرها. وعندما شعَر البابا «أندرونيكوس» بقرب نياحته، أوصى بتلميذه أن يكون خليفة له على الكرسى المَرقسى.
ونجد أن حياة البابا «بنيامين» قد شهِدت ثلاثة حُقب من الحكم الذى مر بمِصر: أولها الحكم الفارسى، وثانيها حكم الروم وقد استمر عشر سنوات، وثالثها الحكم العربى.
أولاً: الحكم الفارسى
وكما تحدثنا سابقًا عن الغزو الفارسى لمِصر، فقد عاصر هذا الأب البطريرك السنوات الخمس الأخيرة من حكم الفرس لمِصر، وقد اتسمت تلك المدة باستراحة الكنيسة المِصرية من إقامة بطاركة دخلاء يضطهدونها من قِبل بيزنطة. لكن الفرس خرَّبوا البلاد، ونهبوها، وحطَّموا الكنائس والأديرة، وقتلوا كثيرين!!
ثانياً: حكم الروم
ومع عودة مِصر تحت حكم الروم، بعد انتصار الإمبراطور «هرقل» على الفرس، انشغل الإمبراطور بإعادة إصلاح ما استولى الفرس عليه وخرَّبوه، وهو ما أتاح للبابا «بنيامين» أن يبدأ فى الاهتمام بإصلاح الأديرة التى خرَّبها الفرس فى أثناء تملكهم مِصر، فرمَّم عمارات أديرة برِّية «شيهيت» فى «وادى النطرون»، وبنى دير القديس «أنبا بيشوى» وأعاد إليه رهبانه، الذين لما نما عددهم وأخذوا قسطهم من الراحة قصد بهم إلى دير «أبى مقار» فرمَّموه وبنَوا فيه كنيسة عظيمة دعَوا البطريرك إلى تكريسها.
إلا أن الأمور لم تستمر هكذا فى هدوء وسلام، فقد بدأت سلسلة من الاضطهادات على قبط مِصر استمرت عشْر سنوات بيد الإمبراطور «هرقل» و«المقوقس» الذى أُرسله حاكماً مدنياً دينياً رومانياً على مِصر. وما كان من أمر «البابا بنيامين» فى تلك المدة إلا أنه اختفى فى صَعيد مِصر بعد أن ظهر له ملاك وأمره بالفِرار إلى هناك، معلنًا له ما سيعانيه الشعب القبطى من الاضطهادات بيد الروم، وقد تم هذا، فقد بدأت الاضطهادات تنهال مرة أخرى على الكنيسة القبطية المِصرية (اليعاقبة) من الكنيسة الملكانية عندما أذاق المقوقس «سيروس» قبط مِصر صُنوف العذاب والهوان، ورفضوا اتِّباع المذهب الملكانى، مؤْثرين الجَلد أو الموت عن ترك عقيدتهم. ويذكر د. «ألفريد ج. بِتلر» عن القبط: «… قد أذلهم فيرس (سيروس) وأرغم أنوفهم…». وهكذا مضى البابا «بنيامين» مع بعض أساقفته إلى برِّية القديس «مقاريوس»، ثم إلى الصَّعيد، وكان ذاك فى أثناء وجود المقوقس حاكمًا مدنيًا دينيًا رومانيًا على مِصر.
وقد تحدثنا عن الاضطهاد والقسوة من الروم فى أديرة مِصر مع رهبانها فى مقالة «أنبا صموئيل المعترف». فلم ينجُ قبط مِصر من مثل تلك العذابات إذ كان مصير من يرفض التخلى عن عقيدته هو الجلد والتعذيب والسَّجن الذى كان يؤدى إلى الموت. والأمر لم يكُن محدودًا فى حاكم الروم بالإسكندرية، بل كان يمتد إلى إقامة أساقفة للملكانيين فى كل بلاد مِصر الذين كانوا بدورهم يضطهدون القبط، حتى إن القساوسة القبط كانوا يُقتلون أو يشرَّدون!! وكانوا يجدُّون فى السعى للبحث عن البابا «بنيامين» الذى كان يتنقل بين الأديرة والمغائر فى الصحراء
وقد تأثر بعض الأساقفة والشعب الذين لم يستطيعوا الهرب من الاضطهاد وانضموا إلى المذهب الملكانى، إلا أنهم كانوا غير راضين عن هذا فقد كانوا يُظهرون ما يخالف حقيقة إيمانهم. ويذكر المؤرخون أنه ظل هناك بقية للقٍِبط فى الإسكندرية خلال مدة السنوات العشْر بالرغم من عدم وجود قساوسة، ما عدا قَس واحد كان يتخفى فى زى نجار فى جميع أنحاء المدينة حاملًا أدواته وعُدته، ومع حلول الليل كان يذهب إلى الكنيسة لإقامة الصلوات، وكان يتفقد المَسيحيِّين ويساعدهم ويقويهم.
وحاول الشعب، ذات مرة، التخلص من «سيروس»، إلا أن الأمر كُشف من أحد الضباط الروم الذى يكِنّ عداوة شديدة للقِبط، فأرسل الجنود للانتقام من المتآمرين وكل من يساندونهم، فقتلوا بعض المتآمرين، وجرحوا بعضًا، وقطَّعوا أيدى آخرين، دون قضاء أو حكم!!
ثالثاً: الحكم العربى
يذكر المؤرخون أن «المقوقس» كان فى الحصن عندما بدأ «عمرو بن العاص» حصاره، إلا أنه لاذ بالفِرار إلى «الإسكندرية». والجدير بالذكر، أن كل الكنائس التى كانت فى داخل الحصن كان مسؤولاً عنها قساوسة ملكانيون، إذ كان ممنوعاً على القبط أن يقيموا صلواتهم فيها. فيذكر الكاتب المؤرخ «عبدالعزيز جمال الدين»: «ولم يُبَح لأحد هناك أن يتعبد على غير ذلك المذهب، فإن (قيرس) كان لايزال، على عهده، العدُو الأكبر لمذهب القبط، وبقى على ذلك إلى آخر أمره. وإن فى وجوده بالحصن لأقوى دليل، إذا احتاج الأمر إلى دليل، على أنه لم يبقَ بالحصن من القِبط… بل إن الروم أساءوا الظن ببعض هؤلاء فوضعوهم فى السجن وأنزلوا بهم فيه نَكالاً (عقاباً) فظيعاً». فالقِبط لم يكُن لهم أى وجود فى الجيوش أو فى أمور القتال، فقد كان اضطهاد عشْر سنوات كفيلاً بتفريقهم وهربهم إلى الجبال والصحارى.
وبعد مضى شهر من حصار «عمرو بن العاص» للحصن، اجتمع المقوقس إلى خاصته، وأشرك معه أسقف «بابليون» الملكانى فى أمر الحرب، واجتمعوا فى الرأى على أن يهرَُبوا إلى جزيرة «الروضة»، ويُرسلِوا إلى «عمرو» ليفاوضوه فى أخذ المال والابتعاد عن البلاد. وبالفعل أرسل «المقوقس» إلى «عمرو» جماعة، وكان من بينهم أسقف بابليون، فأجابهم «عمرو»: «ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما أن دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبَيتم فأعطَيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا، وهو أحكم الحاكمين». وقد اختلف الروم فى قَبول شروط عمرو أو رفضها، وطلبوا إمهالهم شهرًا من الزمان إلا أنه أمهلهم ثلاثة أيام.
وانتشرت الأخبار بين جنود الروم الذين رفضوا الانقياد إلى هذا وأرادوا الحرب، وكانت الغلبة لـ«عمرو». أمّا «المقوقس» فقد كان يرغب فى الإذعان والتسليم للعرب، فانتهز فرصة هزيمة الروم وأرسل إلى «عمرو» يطلب صلحاً على أن يُرسَل إلى الإمبراطور «هرقل» لإقراره، وهكذا ظلت الجيوش العربية وجيوش الروم فى مواقعها إلى حين وُرود رد الإمبراطور. ويَعرِض الكاتب «عبدالعزيز جمال الدين» وجهة نظره فى هذا: إن «المقوقس» الذى وقع عليه اختيار إمبراطور الروم لحكم مِصر، جامعاً السلطة الدينية والمدنية، كان يطمع فيما هو أكثر من حكم مِصر، إذ أنه أدرك مدى ضعف الإمبراطورية بوجه عام، واستشهد بالآتى:..
■ إنه (المقوقس) صاحب فكرة تسليم مِصر للعرب ودفع الجزية.
■ إنه ظل قائماً بمصر بالرغم من عزله من الإمبراطور حتى تُوفى بالإسكندرية مُمَنِّيًا نفسه بجنى ثمار تحالفه.
■ إنه حاول إصلاح عَلاقته بالقبط لهدفين: الأول قَبولهم له كحاكم، والثانى قَبولهم له كبطريرك، بعد القضاء على «بنيامين» الذى كان مختفياً من الساحة منذ قُرابة عشر سنوات.
وأرسل «المقوقس» إلى «هرقل» فى أمر الصلح، فما كان منه إلا أرسل فى استدعائه على وجه السرعة و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى