بدأنا الحديث فى المقالة السابقة عن البابا «بنيامين الأول»: نشأته، ورسامته بطريركًا خلفًا للبابا «أندرونيكوس»، ثم معاصرته للغزو الفارسى، والاضطهاد الرومانى، واختفائه فى صَعيد مِصر، ثم الحكم العربى.
عُقد الصلح بين «المقوقس» و«عمرو بن العاص»، وكان على «المقوقس» أن يُرسِل به إلى الإمبراطور «هرقل» لكى يُقره ومن ثَم يُنفَّذ. وهكذا ظلت جيوش الروم والعرب فى أماكنها انتظارًا لرأى «هرقل» فى أمر الصلح. سافر «المقوقس» إلى الإسكندرية، وأطلع «تيودور» والچنرال «قسطنطين» على شروط معاهدة الصلح، وطلب منهما إبلاغ هذه الشروط إلى الإمبراطور وإقناعه بقَبولها. والتقى «سيروس» رؤساء الجيش وبعض عظماء الإسكندرية، وعرض عليهم أمر الصلح، ودعاهم إلى قَبولها، فى حين لم يُعلِم أهل الإسكندرية بأمر الصلح.
وما إن علِم الإمبراطور بتلك الأحداث، حتى استدعى «المقوقس» على وجه السرعة لمحاسبته على موقفه إزاء مِصر. فأرسل إليه برسالة يطلب منه فيها الإسراع بالحضور. وثار الإمبراطور على «المقوقس»، متهمًا إياه بخيانة دولة الروم والتخلى عن مِصر للعرب، وأن جزاء فعله الموت، وأسلمه إلى حاكم المدينة الذى نفاه من بلاده. وهكذا رفض «هرقل» أمر الصلح. ويبدو أن ذلك الأمر قد انتشر ووصل إلى «عمرو بن العاص»، فعاد القتال والحرب بين الجيشين. وقد قل خروج الروم من الحصن لقتال العرب، فى حين ازدادت هجمات العرب على الحصن بشدة حتى خارت قوى الروم. كذلك تأخر وصول الإمدادات إليهم مع وصول أخبار غضب «هرقل» ونفى «المقوقس» ورفض الصلح. ولم تمضِ أيام كثيرة حتى وصل خبر موت الإمبراطور «هرقل» وهو ما أثر بشدة فى الجيشين، فقد خارت نفوس الروم وفى الوقت نفسه تشددت فيه جيوش العرب وتضاعفت همتهم فى القتال. واستمرت الأحوال هكذا، حتى وصل المدد إلى «عمرو» بقيادة «الزبير بن العوام» الذى ذكر المؤرخون أنه قد وضع سُلمًا على سور الحصن لم يفطن إلى وجوده أحد، حتى استطاع الوصول إلى رأسه، وهو يُكَبِّر، وسيفه فى يده، مما استدعى اجتماع كبار جند الروم طالبين الصلح من «عمرو». وقد ذكر المؤرخون أن قائد الجند عرض أن يسلمهم الحصن مقابل تأمين الجند على أنفسهم. وقد قبِل «عمرو» الصلح، فى حين كان رأى «الزبير» مخالفًا له، وقال: «لو صبِرتَ قليلًا لنزلتُ من السور إلى داخل الحصن، ولكان الأمر على ما نشتهى.». لكنّ «عمرًا» كتب عهد الصلح على أن يغادر الجند للحصن فى خلال ثلاثة أيام، حاملين معهم المؤونات. وبالفعل غادر جنود الروم الحصن عبر النهر، وقد وافقت تلك الأحداث الأيام السابقة على عيد الفصح. ويذكر الأستاذ «عبدالعزيز جمال الدين»: «ويجدُر بنا أن نذكر هنا: أن كبار الروم لم يتعظوا بما كان، ولم ترِقّ قلوبهم لما نزل بهم من ذهاب أمر المَسيحيِّين فى مِصر، ولم تقع فى نفوسهم حرمة ليوم الفصح الذى خرجوا فيه، فبقِيَت فى صدورهم العداوة، والشَّحناء (الحقد والبَغْضاء) المذهبية لم يذهب منها شىء. وقد ذكرنا من قبل أنهم سجنوا فى أول الحصار كثيرًا من القِبط الذين كانوا فى الحصن… فلما جاء يوم الفصح الذى كان فيه الخروج من الحصن، جعله الروم يوم وقيعة ونَقمة على هؤلاء المسجونين التعساء! فسحبوهم من سُجونهم، وضربوهم بالسياط، وقطَّع الجند أيديهم!! أمرهم بذلك كبيرهم (أودوقيانوس)…». وقد ذكر الأسقف «يوحنا النيقوسى» أن فتح الحصن كان عقابًا من الله على ما فعله الروم من أفاعيل فى القِبط.
وقد أثر الاستيلاء على الحصن بشدة فى الروم، إذ فقدوا سيطرتهم على صَعيد مِصر، فإن هذا الحصن هو المدخل إلى إقليم الصَّعيد ومِصر السفلى. وهكذا سيطر «عمرو بن العاص» على: «الفرَما»، و«بلبيس»، و«أتريب»، و«عين شمس»، ثم «حصن بابليون»، واتجه بجيوشه إلى «الإسكندرية». وفى الطريق، مر الجيش العربى بمدينة «نقيوس»، و«شَبشير» التى كانت حصنًا عظيمًا منيعًا له مكانة حربية كبيرة لموقعه بين «بابليون» و«الإسكندرية» لذلك اجتمع الروم مرة أخرى فيه للحرب. إلا أن القائد «دومِنتيانوس» جبَُن على مواجهة العرب فى الدفاع عن المدينة عندما رأى الجيش العربى فهرب إلى «الإسكندرية»، تاركًا جيشه وسفنه. وما إن رأى الجنود قائدهم يفِر، حتى ألقَوا بأسلحتهم وفروا إلى الترعة وقد شمَِلهم الخوف، وفى هربهم أدركهم جيش العرب وقتلوهم واستولَوا على المدينة بغير مقاومة تُذكر. وما إن فُتحت «نيقوس»، حتى أصبح الطريق إلى الإسكندرية مفتوحًا لـ«عمرو بن العاص» بعد أن بدأ جيش الروم فى التراجع نحو العاصمة. ثم اتجه «عمرو» إلى «دمنهور»، فاعترضه الروم عند «سنطيس» جنوبها وانهزموا وتدافعوا نحو الشَّمال إلى «الإسكندرية» حتى وصلوا إلى «حصن كريون» الذى يُعد آخر الحصون فى الطريق إلى «الإسكندرية»، ولم يكُن حصنًا قويًا كسابقَيه إلا أنه لم يكُن مفرًا أمام الروم سوى أن يواجهوا جيش العرب فيه. وبالفعل، حدثت أشرس المعارك الحربية التى وقعت بين الجيشين، واستمر القتال بحسب ما يذكر المؤرخون قرابة العشرة أيام، واستطاع «عمرو» الانتصار والاستيلاء على المدينة، وهكذا خلا الطريق إلى «الإسكندرية».
«الإسكندرية»
وقبل أن نعرِض لأحداث «الإسكندرية»، نجد أن الأمور فى دولة الروم آنذاك كانت غير مستقرة بدرجة كبيرة، فقد أعقب موت الإمبراطور «هرقل» أنْ قام بطريرك القسطنطينية باستبعاد «مارتينا» وأولادها، وأقام «قسطنطين» ابن الإمبراطورة «أودكسيا» إمبراطورًا خلفًا لوالده الذى ترك وصية يطلب فيها أن يتولى حكم الإمبراطورية ابنه البكر «قسطنطين» مع «هرقل» ابن «مارتينا». إلا أن «قسطنطين» مرِض مرضًا شديدًا استمر مائة يوم هى مدة حكمه الإمبراطورية، وقد قيل إن «مارتينا» تخلصت منه بدس السُّم له.
وبعد موت «قسطنطين»، أقاموا بدلا منه «هرقل» أخاه غير الشقيق، الذى كان لايزال صغير السن على إدارة شؤون البلاد فكانت الكلمة العليا فى الحكم لأمه «مارتينا». وفى أيامهما عاد البطريرك الملكانى من نفيه، كما عاد «المقوقس» إلى «الإسكندرية» ولديه السلطة التامة لعقد الصلح مع العرب وعدم مقاومتهم. كذلك نفى أمين الخِزانة ما تسبب فى قيام ثورة ضد «مارتينا» وأبنائها. وقد كان البطريرك الخَلْقِيدُونى ميالًا إلى الصلح مع «عمرو بن العاص». وكانت تمر بالإمبراطورية حينذاك اضطرابات داخلية فى سعى نحو إعادة الحكم إلى أبناء «قسطنطين»، حتى إنه جرى تحريض الجيش على الإمبراطور، فاهتم الجنود بأمر الإمبراطور تاركين أمر محاربة العرب. وقد وصلت رسالة إلى «تيودور» والى «الإسكندرية» وجميع وِلايات الإمبراطورية فى أفريقيا آنذاك: «ولا تسمع كلام (مارتينا) ولا تُطِع أوامر أولادها».
ومن هنا نجد أن الاضطرابات التى مرت بإمبراطورية الروم أثرت فى انشغال قادتها، وبخاصة فى مِصر التى نشأت الصراعات فيها بين الحزبين الأخضر والأزرق، فأدت إلى نُشوب حرب أهلية، فقد استطاع «دومنتيانوس» استمالة الحزب الأزرق، و«ميناس» الحزب الأخضر، وتقاتلا بشدة تقاتُلًا لم يستطِع «تيودور» الحاكم القضاء عليه إلا بمشقة وعناء.
وعاد «المقوقس» إلى «الإسكندرية». وكان البطريرك «چورچ» الذى عُين من «هرقل الصغير» قد شاخ وترك سلطاته لحاكم المدينة. إلا أن هناك قصة تُروى عن دخول «المقوقس» إلى كنيسة «الإسكندرية» الكبرى، واستقبال أهل المدينة له بالفرح، فيعلق أحدهم: «ولا يسعنا على هذا إلا أن نذهب إلى نتيجة من هذا القول: وذلك أن القِبط ما كانوا فى «الإسكندرية»، مهما بلغ عددهم، إلا فئة قليلة ضائعة بين أهلها الكثيرين، لا يحس بها أحد». وقد حدث فى ذلك اليوم أنه استُبدل بالصلوات المتبعة فيه صلوات أخرى لم تكُن وهو ما جعل الشعب يقول: «إن هذا الترتيل لم يكُن فاتحة خير للبطريرك (سيروس) لأنه خارج عن القواعد المتبعة على ذلك، فإنه لن يعايَن مرة أخرى عيد القيامة فى مدينة الإسكندرية». وكانت تتردد أصداء تلك النبوة جهارًا: «إنه قد خالف القواعد الكنسية». وعاد «سيروس» إلى «عمرو بن العاص» بعد عام من صلح بابليون الذى رفضه «هرقل» الكبير غاضبًا، والتقى «عمرًا» وهو يحمل عقد التسليم، فرحب به «عمرو» الذى عندما علِم بأمر الصلح قال: «لقد أحسنتَ فى الشخوص إلينا»، فقال «سيروس»: «إن الناس قد عولوا على دفع الجزية لكى تقف رحى الحرب». وجرى الصلح فى يوم الخميس الثامن من نوفمبر عام 641م. وكان لا بد من الحصول على إقرار الخليفة «عمر بن الخطاب» وإمبراطور الروم، والبابا «بنيامين» مايزال مختفيًا فى صَعيد مِصر… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى