تحدثنا فى مقالة سابقة عن رفض الإمبراطور «هرقل الكبير» لشُروط الصلح مع «عمرو بن العاص»، ونفيه «المقوقس» عن بلاده. وقد أعقب موت «هرقل» حكم «قسطنطين» ابنه، إلا أنه لم يستمر سوى مائة يوم ليتولى الحكم من بعده «هرقل الصغير». وقد تزايدت فى تلك الآونة الصراعات على الحكم فى دولة الروم. وفى الوقت نفسه، استطاع «عمرو بن العاص» الاستيلاء على «حصن بابليون»، ثم «نيقوس»، ثم لقى جيش الروم وهزمه عند «سنطيس»، ومن بعدها «حصن كريون» حتى خلا الطريق له إلى «الإسكندرية». وفى تلك الأثناء، عاد «المقوقس» إلى مِصر حاملًا صلحًا جديدًا لـ«عمرو بن العاص»، وكان لايزال البابا «بنيامين» مختفيًا فى صَعيد مِصر.
ويذكر الكاتب المؤرخ «عبدالعزيز جمال الدين» أن «المقوقس» عاد إلى «الإسكندرية» حاملًا الصلح، وإذ كانت تعترضه صُعوبة فى إقناع أهل الإسكندرية بقَبول شروطه، قرر أن يبدأ بإقناع قيادات المدينة ووُجهائها، فدعى القائد الأعلى «تيودور»، وقائد الحرس «قسطنطين»، مع كبار قواد الجيش وعظماء الدولة، وقدَّم إليهم شروط الصلح محاولًا إقناعهم بقَبوله. لكن المقوقس لم يُعلن الأمر لأهل «الإسكندرية» الذين ظلوا لا يُدرِكون شيئًا منه، حتى وصول مجموعة من العرب إلى قرب «الإسكندرية» للحصول على الجزية المتفق عليها فى الصلح. وما إن علِموا بسبب حضورهم، حتى ثاروا على «المقوقس»، وتوجهوا إلى قصره؛ ولكنه استخدم فصاحته وبراعته اللُّغويتين فى إبداء أسباب قبوله الصلح وشروطه، وأظهر لهم أن ما قبِله لم يكُن إلا حقنًا للدماء المراقة فى الحروب، وحفاظًا على سلام المدينة. فقام أهل «الإسكندرية» بجمع المال المطلوب وتقديمه إلى «المقوقس» الذى حمَله متجهًا به إلى «عمرو بن العاص».
وهكذا فُتحت «الإسكندرية» على ما بها من تحصينات منيعة، فلم يعرف تاريخ المدينة أنه استطاع جيش إسقاطها إلا عند حدوث خيانة من أشخاص من داخلها، فهى تحتوى على سور يمتد إلى مسافة تقترب من التسعة أميال، يحميه البحر والبحيرات والتُّرع مما أعطى جيشها إمكانية تأمين الجزء الصغير الذى يمكن الوصول إليه، ومنع اقتراب أحد من أسوارها. وهكذا صارت مدينة «الإسكندرية» بفضل تحصينها لا يستطيع أى جيش الاقتراب إليها. وثَمة سبب آخر سهّل فتح المدينة، وهو حالة الوهن أو الضعف التى كانت تمر بدولة الروم بعد موت الإمبراطور «هرقل الكبير»، والتنازع على السلطات، فلم يهتم الروم بالتصدى لحماية المدينة، مع تصارع الشيع والفرق وتناحرها، تلك الطوائف التى انقسم إليها أهل الإسكندرية لمؤازرة قائد ضد آخر.
مقاومات
ومع أن إمبراطور الروم قد أقر الصلح وكتابة «عمرو بن العاص» لشروط الصلح وإعلانها للمِصريين، إلا أن حركات من المقاومة المستمرة كانت فى بعض البلاد المِصرية مثل مدينتى «إخنا»، و«بلهيب». وقد كانت «إخنا» قريبة إلى «الإسكندرية»، ورفض حاكمها قَبول شروط الصلح، فما كان من جيش العرب إلا أن سار إليها وحاربوا فُرسان المدينة حتى استولَوا عليها، ومن بعدها «بلهيب»، فى حين قبِل حكام مدن «رشيد» و«البرلس» و«دِمياط» الصلح.
ثم توجه جيش العرب بعد «دِمياط» إلى مدينة «تنيس» المشهورة بثرائها، ويذكر بعض المؤرخين أن إمبراطور الروم طلب من العرب أن يأخذ «تنيس» مقابل أن يهب لهم مائة مدينة من مدن الروم، لكنهم رفضوا طلبه. وعند اقتراب جيش العرب من المدينة، تصدى لهم حاكمها وقاتلهم قتالا شديدًا، لكنه أخيرًا هُزم وأُسر، وبذلك فُتحت المدينة. ويذكر «المقريزى» أن حاكم مدينة «شطا»، الواقعة بين «دمِياط» و«تنيس»، خرج على رأس جنود من «البرلس» و«دميره» و«أشمون طناح» لمساعدة جيش العرب عندما صعُب عليهم فتح «تنيس».
وهكذا انتهى حكم الروم لمِصر فى عام 641م، وقد مات «المقوقس» بعد ذلك. وتتعدد القِصص عن موته، إلا أن جميعها يشير إلى الحزن والخوف اللذين اعترياه، وقد كان موته قبل أن يشهد عيد القيامة التالى لعودته كما ذكر الذين تنبؤوا عنه. وبعد موته، وُضع آخر مكانه يسمى «الشماس بطرس» على كرسى البطريركية، وكان يتبع المذهب الملكانى.
وقد أبقى العرب على بعض حكام الروم، منهم: «ميناسى» فى إقليم «مِصر السفلى»، كان «هرقل» قد اختاره لحكم هذا الإقليم، و«سِنُوتيوس» على الريف، و«فِيلُوخِينوس» على إقليم «أركاديا». ولكنّ المؤرخين يذكرون أن هؤلاء الحكام الثلاثة على نحو خاص كانوا يحملون عداوة شديدة وكراهية عميقة لقِبط مِصر لم يكُن لهما مثيل!! وفى أثناء ذلك، بدأ كل من القائد «تيودور»، الذى صار حاكمًا مدنيًا بعد «المقوقس»، والقائد الأعلى للجيوش «قسطنطين»، فى ترحيل الروم، وكانا يفعلان كل شىء بالاتفاق بينهما وبين العرب.
عودة البابا «بنيامين»
بعد موت «المقوقس»، ورحيل الروم عن مِصر، لم تعُد هناك أى قوة يمكنها أن تَعضُد البطريرك الملكانى، بل فقد سلطانه وهيبته مع رحيل الروم عن مِصر. وفى تلك الأثناء، كان البابا «بنيامين الأول» مايزال مختفيًا فى صَعيد مصر، إلا أن غياب الروم الذى أدى إلى هدوء الاضطهاد الطائفى جعل القِبط يشعرون بالأمن والحرية فى إعلان معتقدهم، وهكذا صارت عقيدة الكنيسة (اليعقوبية) هى التى تغلِب حتى صارت مذهب البلاد، وهو ما جعل «عمرو» يقرر عودة بابا «الإسكندرية» القبطى.
وجاء رجل من القبط يسمى «سِنُوتيوس» أو «شنودة»، وفى الوقت نفسه هو أحد قواد الجيش الرومانى، من أجل التحدث فى أمر «البابا بنيامين» مع «عمرو بن العاص»، لكن مكان البابا كان مايزال مجهولًا لدى الجميع، فكتب «عمرو بن العاص» كتاب أمان إلى البابا البطريرك يقول فيه: «أيَّما كان بَطرِيق القِبط (بنيامين)، نَعِده الحماية والأمان وعهد الله. فليأتِ البَطرِيق إلى هاهنا فى أمان واطمئنان ليَلِى (ليتولى) أمر ديانته، ويرعى أهل مِلته». وما إن وصل عهد الأمان إلى «البابا بنيامين»، حتى عاد إلى «الإسكندرية»، وقد فرِح به شعبه فرحًا عظيمًا، بعد أن غاب عنهم زُهاء ثلاثة عشَر عامًا بدأت مع قدوم «المقوقس».
وبعد عودة البابا «بنيامين» التقاه «عمرو بن العاص»، ويذكر المؤرخون أن «عمرو»: «… أمر بأن يقابَل (البابا البطريرك) بما يليق به من التَرحاب والتكريم، وجعله أميرًا على قومه لا يدافِع (أحد) فيهم أمره، وجعل له وِلاية أمر دينهم».
بَدء الرعاية
وقد كان لعودة البابا البطريرك إلى شعبه أثر عظيم أسعد قِبط مِصر، فقد كانوا فى أشد الاحتياج إلى وجوده بينهم، وبخاصة بعد الاضطهادات المريرة التى أثرت فى كثير منهم، إذ اضطُروا إلى اتّباع المذهب الملكانى خوفًا وكُرهًا لا حبًا فيه. وبذلك أصبح الاهتمام الأول للبابا هو إعادة من ضل العقيدة فى أيام «هرقل»، وبعد أن تم له ذلك، بدأ فى إصلاح ما أخربه الروم من أديرة، وتعمير الكنائس. وقد بارك كنيسة السيدة العذراء التى بُنيت فى دير «أبى مقار» بـ«وادى النطرون». و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى