تحدثنا عن السلام في المقالة السابقة، وأهميته في حياة الإنسان. وأريد أن أؤكد أن السلام الذي يشعر به الإنسان في أعماقه ينعكس بطريقة إيجابية علي حياته في العمل والبناء والنجاح؛ إذ من يشعر بالهدوء الداخلي والسلام في أعماقه، وبينه وبين الآخرين، ينظر في المستقبل بعين الراحة، والتشجُّع، والرغبة في تحقيق مزيد. إلا أنني أريد اليوم أن أتحدث إليكم عن المعاناة التي يشعر بها كل من يفقد السلام في حياته. إن غياب السلام هو ألم في حياة البشر إذ تتفجر عن هٰذا الغياب أحاسيس سلبية لا تقود إلا إلي الدمار والفشل.
ففي فقد السلام، يتعرض الإنسان لسيل من المشاعر المزعجة في إحساسه بعدم الأمان، فيشعر دائمـًا أن هناك ما يهدد وجوده، أو أن هناك خطرًا ما يُقلقه.
أتذكر إحدي القِصص، التي حدثت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عندما جري جمع الأطفال، الذين عاشوا ويلاتها وفقدوا عائلاتهم، في أحد الملاجئ. وفي الليلة الأولي لهم، بعد أن تناولوا طعام العشاء، وُضعوا في أسِرَّتهم للنوم، إلا أنهم ظلوا مستيقظين طوال الليل ولم يمكن أن يغمض لهم جفن! وبالبحث، وُجد أنهم يشعرون بعدم الأمان!! وأنهم يخافون النوم؛ لأنهم ربما يستيقظون فلا يجدون لهم طعامـًا مثلما عاشوا في مرحلة الحرب! وهنا قرر المسئولون أن يقدموا رغيفـًا إلي كل طفل ليظل بين يديه في أثناء نومه حتي يطمئن أنه سيجد طعامـًا له إلي الغد؛ وعندئذ فقط، استطاع الأطفال النوم!!
ربما لا تجتازك هٰذه المشاعر في حياتك بتلك الطريقة، إلا أن من يفقد السلام في حياته يفقد معه الأمان في أنه لن يجد ما يريده في الغد. سترتسم الحياة أمامه كخطوط سوداء تمنعه من أن يري إشراقة شمس يوم جديد يحمل معه أملا جديدًا في الحياة. ستجتاحه أحاسيس عدم الأمان تجاه الآخرين إذ سيكون دائم الشعور بأن مواقفهم ستكون دائمـًا علي غير ما يتمني؛ وهٰذا بدوره لن يؤدي إلا إلي الشعور بالعدوانية تجاه من حوله؛ فإن كان الشخص لا يشعر أنه آمن فلا سبيل أمامه إلا أن يبتعد عن مسالمة الآخر.
أيضـًا فقدان السلام يسبب سقوط الإنسان في بئر لا نهاية لها مليئة بمشاعر الإحباط. فهو يشعر أن كل ما يؤديه في الحياة يمكن أن تدمره الظروف أو الآخرون؛ فيستسلم لهٰذه المشاعر التي بدورها تزعزع عزيمته وإرادته في تقديم أعمال بارزة وجليلة للبشرية في الحياة، وهو ما يسوقه حتمـًا إلي الإخفاق والفشل. قيل: “الأهم من أن نعرف أين نحن، أن نعرف في أي اتجاه نتحرك.”. أتُرانا نتحرك في طريق البناء والإنتاج والعمل وتحقيق ما نصبو إليه من آمال وأحلام وإنجازات نسعي لتحقيقها، أم أننا نقف عند مشارف الطريق تملأ حياتنا الإحباطات؟! نعم، فإن كنا لا نعرف إلي أين نتجه، فلن نستطيع أن نخطو نحو تحقيق أيّ شيء. والسلام يساعدنا أن نهدأ قليلا ونفكر في أمورنا وأعمالنا ونقيّمها بأسلوب صحيح وواقعيّ، علي نحو يمكِّننا من التقدم والوصول إلي ما نسعي له من أهداف.
وكما ذكرنا، إن السلام يبدأ صنعه من داخل الإنسان، فلا تبحث عنه خارجك، إنما حاول أن تكتسبه من ثقتك بالله الذي يحب السلام، ويمنح كل ساعٍ له أن يحققه؛ ومنه تنطلق إلي الآخرين، ومعهم، حتي يمكنك بناء حياتك ومستقبلك، وبالأكثر نبني معـًا الوطن.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطيّ الأُرثوذكسي