وتعيش مِصر عبر السنين والأزمان تحمل نجومًا بزغت فى سمائها عبر تاريخها الطويل المجيد، هم مِصريُّون أنجبتهم أرض هذا الوطن العظيم، وهم أيضًا من صاروا محط أنظار العالم. وإحدى تلك الومضات المتوهجة فى صفحاتها المشرقة القديس «أنبا أبرام»، أسقف الفيوم والجيزة، الذى انتقل من عالمنا فى العاشر من يونيو عام 1914 م، ويُحتفل بذكراه سنويًّا.
وكما قدَّمَت مِصر إلى العالم نظام الرهبنة، وكان أول راهب هو القديس «أنبا أنطونيوس»، وسار على خُطى المِصريين العالمُ بأسره، هكذا قدَّمَت أيضًا النماذج المضيئة ممن سلكوا طريق الرهبنة. وكان «أنبا أبرام» أحد الذين قدَّمتهم الرهبنة إلى العالم، فقد انتقلت شهرته عبر القارات ليسمع عنها الكاتب الإنجليزى «ليدر» خلال وجوده فى فرنسا، فيقرر السفر إلى أرض مصر مع زوجته ليلتقياه ويتأثرا كثيرًا بهذا اللقاء، فتُسرع كلمات الكاتب الإنجليزى لتخُط صفحات عن الأب الأسقف المصرى الجليل، فقال عنه: «هذا القديس الشيخ عرَفه العالم الشرقى كله، وأدرك أنه الخليفة المباشر لسلسلة المسيحيِّين الأولين». إن هذه الكلمات تعبِّر بأسلوب دقيق عن أصالة مِصر وتميزها وقدرتها فى أن تحفظ كل ما يُسلَّم لها من قيم ومبادئ وإيمان عبر تاريخها.
نشأته
وُلد «أنبا أبرام» فى عام 1829 م باسم «بولُس غبريال» بالمنيا. وفى 1848م، فى سن التاسعة عشرة، ترهب بدير السيدة العذراء «المُحرَّق» باسم «بولُس الدلجاويّ المُحرَّقى». ولوداعته وسُمو أخلاقه، نال محبة كبيرة من إخوته الرهبان فى الدير، فامتدت شهرته حتى سمِع به أسقف المنيا آنذاك «أنبا ياكوبوس» فاستدعاه لإدارة شُؤون الإبراشية، واهتم بالفقراء ومعاونتهم. ثم رُسم قَسًّا فى عام 1863 م. إلا أنه اشتاق إلى العودة إلى دَيره وحياة الرهبنة، فعاد بعد قضاء ما يقرب من أربع سنوات.
فى دَير المُحرَّق
وعند عودته، اتفق الرهبان على اختيار «القَس بولُس» رئيسًا لهم. وفى تلك المدة، اهتم بتحسين أمور الدير الداخلية والخارجية، فرمَّم ما تهدَّم فيه، وغرَس به الكروم، وانتظمت أحوال الدير، حتى جذب إليه عددًا غير قليل من الرهبان. وفى أثناء ذٰلك، وصل خبر أعمال الخير والإحسان التى يقوم بها رئيس الدير «القَس بولُس» إلى الفقراء والمحتاجين، فلجأوا إليه. أمّا هو فقد اهتم بهم وبتدبير حاجاتهم اهتمامًا كبيرًا، حتى قيل إن عدد الذين كانوا يلجأون إلى الدير ويعتنى بهم زاد على عدد رهبان الدير. وقد حاربه البعض معتقدين أن الدير سيؤول إلى الفقر بسبب إحسانه، فطالبوا بعزله. فترك الدير مع بعض تلاميذه المخلصين وسْط بكاء الفقراء ودموعهم، بعد أن أمضى فى رئاسته خمس سنوات تقريبًا.
فى دَير البَرَمُوس
انتقل «القَس بولُس الدلجاوى المُحَرَّقى» إلى دير أنبا بيشوى، ثم دير السيدة العذراء «البَرَمُوس» حيث قضى وقته فى الصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والتصدق على الفقراء بكل ما يتاح له من إمكانات.
سيامته
فى عام 1888 م طلب ملك الحبشة إلى البابا البطريرك أن يرسُِم لكنيسة الحبشة ثلاثة أساقفة ويُرسلهم إليها، فرسم أولاد «القس بولُس» الروحيِّين. أمّا هم فطلبوا رسامة معلمهم أسقفًا على الفيوم والجيزة، بعد نياحة «أنبا إيساك» أسقفها. واستجاب البابا البطريرك لطلبهم، فرسم «القس بولُس» أسقفًا على الفيوم والجيزة باسم «أنبا أبرام».
وما أن تسلم إبراشيته حتى ذاعت شهرته ومحبته وفضائله، ولجأ إليه كثير من الشعب باختلاف طبقاتهم. وذكر أحد المؤرخين: «ورُسم القس بولُس باسم (أنبا أبرام)، وسار لتسلم مركزه الجديد، وبعد تسلمه بقليل، فاح عبير فضله وانتشر صيت قداسته فى كل مكان، فأَمّ دار أسقفيته كثيرون من كل طبقة، فكانوا يجدونها ملأى بالفقراء الذين كانوا يلجأون إليها بالمئات والألوف. فكان يهب لهم كل ما يكون لديه من المال». لقد اهتم «أنبا أبرام» بالفقراء والمحتاجين حتى قيل إنه خصص الدور الأول من داره للفقراء والعميان والمرضى. كذلك كان يهتم بطعامهم بنفسه، فهو لم يكُن يسمح أبدًا بتقديم طعام إليه أفضل مما يقدم إلى الفقراء. ويُحكى عن هذا أنه أقام إحدى المسؤولات لتهتم بطعام المساكين والفقراء، وأوصاها بألا تميز بين أكله وأكلهم. وذات مرة، بينما كان يتفقد الطعام الذى يُقدم إلى الفقراء، وجده مختلفًا عن ذلك الذى قُدم إليه، فحزِن جدًّا وأقالها من خدمة الفقراء.
المعطى
لم يكُن «أنبا أبرام» ليرُدّ أى سائل يأتى إليه، فكان يقدِّم كل ما يملِك من مال إلى المحتاجين. وإذا لم يجد ما يُعطيه من مال، يقدِّم شاله أو أى شيء له! وقد حدث مرة أن طلبت إليه امرأة مالًا لتقتات به، ولما لم يجد أعطاها شالًا حريريًّا أُهدِى له حتى تبيعه وتشترى حاجاتها. وبينما هى تبيعه، رآها صاحب الشال الذى أهداه لأنبا أبرام، فاشتراه منها وأعاده له. ويُحكى أيضًا أن جاءت امرأة تطلب إليه مالًا، ولم يكُن معه سوى جنيه واحد فقدَّمه إليها، فإذا وكيل الدير يُسرِع خلفها ويستبدل بالجنيه ريالًا! فعادت المرأة لتخبر الأب الأسقف بما حدث، فأحضر الوكيل ووبخه على عمله، وأعاد الجنيه إلى المرأة تاركًا لها الريال أيضًا. ومع أن الأسقفية لم يكُن بها مال فى ذلك الوقت، إلا أنه لم يمضِ وقت قليل حتى وصلت الأموال والتبرعات.
ومع كل هذه المحبة الجارفة نحو الفقراء ومساعدتهم، إلا أن كل من حاول خداع رجل العطاء جاءت العاقبة عليه. فيذكر عدد من المعاصرين لأنبا «أبرام» أن ثلاثة شبان حاولوا خداعه، بِأن ذهب اثنان منهم وأخبراه بأن صديقهم الثالث مات وليس لديهما المال لتكفينه، فسألهما الأسقف: هل مات؟! فقال أحدهما: نعم، مات. فقدم إليهما مالا لكى يكفنوه. وبعدما عادا، وجدا أن صديقهما الثالث قد مات حقًّا!!
نسكياته
لم يهتم «أنبا أبرام» بالمظاهر، فقد كان إنسانًا بسيطًا فى ملبسه وفى مأكله، كما كان إنسانًا متضعًا جدًّا. وفى هذا كتب عنه «ليدر» أنه تضايق عندما أصر هو وزوجته أن ينحنيا ويركعا أمامه. كما كان يرفض كل عبارات التبجيل، ويجلس على كرسى يماثل ما يجلس عليه الشعب.
ويُحكى أن قيصر روسيا وزوجته زاراه فى أثناء وجودهما بمِصر فى 1898 م، لِما سمِعاه عن صفاته. وبعد أن صلى لهما، حاولا أن يُعطياه مالًا، لكنه رفض. وبعد كثير من المحاولات أخذ جنيهًا ذهبيًا، ووهبه لتلميذه. وشعر ضيفاه برهبة شديدة فى حضرته لم يشعُرا بمثلها فى حياتهما.
نال «أنبا أبرام» محبة وافرة فى قلوب كل من عرفوه، حتى إنه قيل إن مديرى إقليم الفيوم كانا يترددان على زيارته لأخذ بركته والانتفاع بنصائحه، وكانا يلجآن إليه كلما اعترضتهما مشكلات ليجدا حلا عنده. ويُحكى أنه ذات مرة، زار الخديو توفيـق الفيوم، والتقى القديس ببشاشة كبيرة قائلًا له: «أنت رجل مبـروك». وكان هذا اللقاء مثار حديث جميع الناس آنذاك، لتلك الحفاوة التى قُوبل بها الأب الأسقف من الخديو.
أبوته
كان «أنبا أبرام» أسقفًا وأبًا للجميع. فقد كان يقدِّم إلى كل من يطلب إليه دون أن يسأل أو يفكر عن ديانته أو مكانته واهبًا لكل من يلجأ إليه حاجاته. وكان يردد دائمًا: «الأسقف للجميع: للمَسيحى، وللمسلم».
نياحته
وفى عام 1914 م، مرِض «أنبا أبرام»، لكنه لم يتوقف أبدًا عن الاهتمام بخدمته وعمله بالرغم من اشتداد المرض عليه، حتى انتقل من هذا العالم فى العاشر من يونيو. واستقبلت الجماهير خبر وفاته بحزن شديد، وذرِف الدموع عليه جميع أبناء الشعب الواحد، وشيَّعه إلى حيث دُفن آلاف المِصريِّين من المَسيحيِّين والمسلمين، إذ إنه كان أبًا لكل من يلجأ إليه. ويُذكر أن المِصريِّين شاركوا فى حمل جثمانه من كنيسة السيدة العذراء وحتى دَير العَزَب، وخصصت «هيئة السكك الحديدية» يومذاك قطارًا لنقل المُشيِّعين لجثمان الأب الأسقف إلى هناك. وذُكر عن الأستاذ «سليم صائب»، حكمدار الفيوم حينذاك، أنه أخبر زوجته فى يوم نياحة الأسقف: آه! يظهر أن أسقف النصارى قد مات.. اُنظرى الخيول وركابها المحيطين به، وهم يصرخون: «إكؤواب، إكؤواب». ثم سأل عن معنى الكلمة فقيل إنها كلمة قبطية تعنى «قدوس». ورُفاته موجودة بدَيره بالفيوم حتى اليوم.
قداسته
أُعلنت قداسته فى 1964 م، فى عهد المتنيح القديس البابا أنبا «كيرلس السادس». فقد صدر قرار باعتبار «أنبا أبرام» قديسًا، وأن يُذكر اسمه فى صلوات الكنيسة. ومن التوافق أن يُعلِن قداسة البابا المعظم أنبا «تواضروس الثانى»، فى يونيو من عام 2013 م، البابا كيرلس السادس قديسًا، ويُذكر أيضًا فى الصلوات الكنسية، لتستمر الأيقونة المِصرية على نهج واحد فى خطوط يشِعّ ضياؤها على أرض مِصر.
وقد أقام نيافة الحَبر الجليل «أنبا أبرام»، أسقف الفيوم الحالى، احتفالية كبيرة بالعيد المِئوى لنياحة القديس «أنبا أبرام» شرَّفها صاحب القداسة والغبطة البابا المعظم أنبا «تواضروس الثانى»، التى افتتح فيها قداسته مركزًا ثقافيًا بالفيوم، لتظل مِصر منارًا يُلقى بأضوائه على العالم كله.
وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى