كنا قد استعرضنا فى مقالات سابقة تاريخ مِصر تحت الحكم الرومانيّ حتى انتهينا إلى حكم الإمبراطورية «بولِكِيرِيا» شقيقة الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثاني» وزوجها «مارقيان» (450-457م). ونستكمل اليوم هذه الحِقبة التى عاشتها مِصر.
كانت «بولِكِيرِيا» تتصف بالحكمة والآداب ما وحَّد الكلمة على اختيارها إمبراطورًا للبلاد لتصبح أول امرأة تحكم المملكة الرومانية. ثم تزوجت الأمير «مارقيان» وأشركته معها فى الحكم، الذى انفرد بحكم البلاد بعد موت الإمبراطورة مدة أربع سنوات حتى موته، الذى انتهى معه حكم عائلة الإمبراطور «ثيئودسيوس الأول» فى الشرق. ليحكم بعده «ليو» قيصر الأكبر.
الإمبرطور «ليو» قيصر الأول (457-474 م)
نشأ «ليو» فى «داسيا» إحدى المقاطعات الإمبراطورية الرومانية، وقد خدم بالجيش الرومانىّ. وقد ساعده فى ارتقاء هذا المنصب البطريرك الرومانىّ الشرقىّ الأمير «أسبر» ورئيس الجنود إذ كانت له كلمة مسموعة ويهابه الجميع، وقد بايع «ليو» واستمال إليه الشعب والأمراء. واعتقد البعض أن الإمبراطور سيكون سهل القيادة والتحكم فى قراراته، إلا أن «ليو» كان يزداد نفوذًا واستقلالًا عن «أسبر» ما تسبب فى نشوء أزمة بينهما ازدادت وأدت إلى قتل البطريرك. وقد كان حفل تتويج الإمبراطور أولى المناسبات التى بدأ فيها تدخل بطريرك القسطنطينية.
وبعد أن ملك زمام الحكم، أعاد الصلح مع الأمراء الغوطيِّين إكراما للبطريرك الذى ساعده فى الوصول إلى الحكم. وقد كان نتيجة هذا أن زوَّج ابنته بـ«زينو» الذى صار إمبراطورًا فيما بعد. وقد حاول «أسبر» اغتيال «زينو» وكادت محاولته أن تنجح.
قام «ليو» بعمل بعض الأخطاء التى هددت النظام الداخلىّ للإمبراطورية. ويذكر المؤرخون أن مدة حكم «ليو» تأثرت بالإمبراطورية الرومانية الغربية. كما حارب الهُونِّيِّين الذين حاولوا إسقاط القسطنطينية، ولٰكنهم لم ينجحوا نظرًا إلى حصانة أسوارها. كما حارب طائفة «الوندال» فى محاولة لتوسيع الإمبراطورية، إلا أن محاولاته باءت بالفشل. وقد أغارت «الوندال» على السواحل اليونانية حتى جرى عقد معاهدة سلام بين «ليو» و«جينسيرك». ويُذكر أنه علِم بخيانة البطريرك وابنه، فسار إليه وقتل جميع عائلته. وفى الأيام الأخيرة من حكمه، صار لا يحظى بشعبية كبيرة حتى مات فى عام 474م. ثم حكم من بعده الإمبراطور «ليو» الثانى الملقب بالسلوقىّ.
الإمبرطور «ليو» الثانى (467-474م)
ذكر بعض المؤرخين أن «ليو» الثانى هو ابن ابنة «ليو» الأكبر زوجة «زينو» الذى كان أمير الجنود الرومانية فى إحدى وِلايات «أناطولى»، وأشركه جَده لأمه فى الحكم معه، ثم خلفه بعد موته؛ وكان عمره آنذاك سبْع سنوات وأبوه «زينو» وصيًّا عليه. إلا أن «ليو» الثانى تُوفى بعد عشَرة أشهر من بداية حكمه لإصابته بمرض غير معلوم، وخلفه أبوه «زينو». وقد انتشرت شائعة أن موت «ليو» الثانى لم يكُن طبيعيًّا، وأُلقيت التهمة على أمه بقتله بالسُّم حتى يرتقى زوجها عرش الإمبراطورية. وبعض من المؤرخين لا يعتبر «ليو» الثانى من ضمن قائمة الأباطرة الرومان لقصر مدة حكمه، ولأنها كانت فى ظل حكم والده لصغر سنه.
الإمبرطور «زينو» (474-491 م)
كان «زينو» أميرًا للجنود الرومانية المرابطة فى إقليم «إيسوريا» فى «أناطولى»، وكان صِهرًا للإمبراطور «ليو الأكبر»، ثم كفيلًا لابنه «ليو الثانى»، فتولى الحكم بعد موت ابنه. وتذكر بعض المصادر القديمة أن فى عام 464م استطاع «زينو» الحصول على بعض الخطابات التى كتبها «أردابور» ابن «أسبر»، التى يشجع فيها الملك الساسانىّ أن يغزو الإمبراطورية الرومانية، ويعضده حيال وقوع ذلك. فقام بتقديم الخطابات إلى «ليو» الأكبر. ونتيجة هذه الأحداث، قام «ليو» بطرد «أردابور»، وكان قائدًا للجيوش، وعيَّن «زينو» فى الحرس الإمبراطورىّ وقيادة الجيوش ما زاد من تأثيره ومكانته. وفى 465م، وقع خلاف شديد بين «ليو» و«أسبر» نتيجة ازدياد تأثير «زينو» وقوته، الذى صار صديقًا وحليفًا للإمبراطور.
وفى 466م، تزوج «زينو» بابنة الإمبراطور، وفى 467م صار أبًا لوريث العرش «ليو» الثانى. وفى 468م، استطاع «زينو» النجاة بأعجوبة من محاولة «أسبر» قتله التى أدت إلى فِراره والحياة بعيدًا عن القسطنطينية عامين. وفى أثناء تلك المدة، قام «أسبر» بتوطيد وتوسيع نفوذه بجعل ابنه «يوليوس بطريسيوس» قيصرًا، وتزويجه بابنة «ليو» الصغرى فى 470م. إلا أنه فى العام التالى، أعدم «ليو» «أسبر» و«أردابور» ابنه، وفى اليوم التالى لإعدامهما عاد «زينو» إلى القسطنطينية.
فى 473م، عيَّن «ليو» حفيده «ليو» الثانى قيصرًا، ثم مات فى 474م. وكما ذكرنا فإن «زينو» صار إمبراطورًا شريكًا لصغر سن ابنه، ثم تولى الحكم بمفرده بعد موته. وما إن بدأ فى ممارسة مهام منصبه، حتى كان عليه أن تستقر الأوضاع مع طائفة «الوندال» التى كانت تهدد الطرق التِّجارية البحْرية، وتوغلت فى مدن الإمبراطورية الساحلية. وقد نجح فى عقد سلام دائم بين الإمبراطورية الرومانية الشرقية و«الوندال» بعد دفع فدية الأسرى الرومانيِّين، وإنهاء اضطهادها للمسيحيِّين الأرثوذكس فى أراضيها. ومع كل هذا النجاح، إلا أن «زينو» لم تكُن له شعبية بين الشعب أو مجلس الشيوخ إذ إن وصوله للحكم كان لزواجه بابنة الإمبراطور. وقامت عليه فتنة عظيمة فى الإمبراطورية أثارتها زوجة «ليو الأكبر»، التى قررت التخلص من زوج ابنتها وإقصاءه عن العرش، ووضع آخر بمساعدة أخيها «باسيليسكوس». وفى أثناء ذلك، قام المتآمرون بإحداث أعمال الشغَْب فى القسطنطينية ضد الإمبراطور، واتهمه رؤساء الأحزاب بالضعف وفساد الرأى وعدم القدرة على إدارة شؤون البلاد ما اضطره إلى الهرب إلى «أناطولى» فى 475م، وتولى «باسيليسكوس» الحكم بدلًا منه. وكان فى مدة حكم «زينو» الأولى، أنه اهتم بالديانة المسيحية، وأصدر مرسومًا سُمى «جمْع الكاثوليكية واتحادهم». إلا أن المؤرخين رأَوا أن هذا المرسوم تسبب فى زيادة الخلافات وكثرة الفتن والمِحن العظيمة بدرجة كبيرة.
وما إن تخلص المتآمرون من «زينو»، حتى دب الخلاف بينهم وتصارعوا، فاستولى «باسيليسكوس» على الحكم لنفسه. وقد فرض الضرائب الباهظة على الشعب لعدم وجود الأموال الكافية، وحدث حريق هائل فى أيامه التهم أجزاءً كثيرة من المدينة ما جعل الشعب يُلقى اللوم على عاتقه.
ثم قام مجلس الشيوخ بتعضيد «زينو» سرًّا، واتحد معه بعض الكتائب العسكرية الرومانية للعودة إلى الحكم. فأرسل «باسيليسكوس» جيشًا بقيادة ابن أخيه الذى استطاع «زينو» كسبه إلى صفه بالمال والوعود، وبتقدُّمه نحو القسطنطينية أدرك «باسيليسكوس» فشله فى الصمود أمام خَصمه، فهرب إلى كاتدرائية «أجيا صوفيا».
وفى 476م، فُتحت أبواب القسطنطينية لعودة الإمبراطور «زينو» الذى أمر بإرسال «باسيليسكوس» وأسرته إلى «كبادوكِيا» حيث ماتوا جراء حبسهم فى بئر جافة.
وما إن أمسك بزمام أمور الحكم، حتى صار طاغية واستخدم الظلم فى حكم البلاد، وتجبَّر وزاد طغيانه جدًّا. وكان من ظلمه وطغيانه أنه تنكر لما صنعه معه الغوطيُّون لاستعادة حكمه، وحاربهم حربًا شديدة جدًّا، ثم عاد وقهر جميع الأمراء الذين شاركوا فى الفتنة ضده. وما إن انتهى من هذا الأمر حتى انغمس فى الملذات، فكرِهته الرعية بشدة. حتى إن اثنين من المؤرخين القدامى ذكرا أنه حُمل من على سريره ودُفن حيًّا! وقد شهِد «زينو» انتهاء الإمبراطورية الرومانية فى الغرب. وبعد موته خلفه الإمبراطور «أنسطاسيوس» الأول.
أما عن مِصر فى تلك الأيام، فقد كان أنه عندما ضاق الأمر بالإمبراطور السابق «مارقيان» بخصوص المِصريِّين، عُقد «مجمع خَلْقْدُونية» عام 451م الذى فيه تعرض «البابا ديسقوروس» ـ الخامس والعشرون من باباوات الإسكندرية ـ لاضطهادات كثيرة بسبب رفضه رأى الإمبراطور؛ حتى إنه نُفى ثم أقام مكانه كاهنًا. ويذكر بعض المؤرخين أن الإمبراطور «مارقيان» أراد التخلص من بابا الإسكندرية عقابًا للمِصريِّين الذين كانوا يناصبون الحكومة الرومانية العداء وينظرون إليهم كعدو غاشم. إلا أن المِصريِّين لم يهدأوا إلى هذا القرار، وقد قُتل ذاك الكاهن فى عصر الإمبراطور «ليو» الأول الذى قام بتعيين بطريرك آخر أيده الإمبراطور «زينو» ما أدى إلى استمرار النزاع والحروب فى البلاد المِصرية؛ فالمِصريُّون لا يعترفون بقيادة أى رئيس دينىّ لهم سوى بطريرك الإسكندرية الذى يختاره. وكان للصراعات الدينية التى كان يَدعَمها النفوذ الرومانىّ، ودَور الأباطرة فيها، غافلين عن إرادة الشعب ورغباته، دور كبير فى رفض الحكم الرومانيّ فى مِصر. و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ