تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم عائلة «ليو» فى الإمبراطورية الرومانية الشرقية: «ليو» الكبير، و«ليو» الثانى حفيده، وأخيراً «زينو» زوج ابنته الذى خلَفه الإمبراطور «أنسطاسيوس» الأول.
– الإمبراطور «أنسطاسيوس» الأول (491- 518م)
وُلد بمدينة «ديراتشيوم» التابعة «للبلقان». انضم إلى الخدمة العسكرية متقلداً المناصب حتى صار أحد ضباط القصر الإمبراطورى. ويذكر بعض المؤرخين أنه كان من جملة الذين يقومون بمناظرة عدم رفع أصوات الغوغاء وإسكات العامة حول القصر، وإلزامهم الصمت ما جعله يُلقب «بالمُسكت».
ووقت موت الإمبراطور «زينو»، كانت له مكانة كبيرة ما جعل القيصر «إريادن» أرملة القيصر «زينو» أن تتزوجه، التى سعت لجعله إمبراطوراً، مفضلة إياه عن «لونجينوس» أخى زوجها. وقد قامت باستمالة قلوب مجلس الشيوخ الرومانى إليه حتى طلبوا أن يحكم البلاد. وفى بداية أمره، كان يُجِلّه ويحترمه الآخرون لتدينه وعدله وعمله الدؤوب على البناء والإعمار. ولكنه ما إن تقلد أمور الحكم حتى تحوّل إلى النقيض إذ تغيرت طباعه وصار ظالماً لشعبه إلى أن كرِهوه وتمنَّوا الخلاص منه.
وقد اتسمت مدة حكمه بالحروب الخارجية والصراعات الدينية، وكان يريد الإيقاع ببطريرك أنطاكيا. كذلك ثارت الفتن والقلاقل الشديدة فى عصره، خاصة فى أوروبا، حتى قام «ڤيتاليان» بثورة ضده كادت تُطيح به، فقد سار إلى القسطنطينية بجنوده وأقام عند أسوارها حتى كاد جنود «أنسطاسيوس» أن يُهزموا. وفى الوقت نفسه، كان الشعب فى الداخل يستعد لعمل ثورة ضده، فلم يجد مفراً من استمالة الشعب بالرفق وحسن المعاملة وخفض الضرائب، وتوقف عن بيع المناصب والرتب، ما أدى إلى تهدئة الشعب. إلا أن الشعب ظل على كراهيته له حتى موته.
وفى أثناء اعتلائه العرش، اشترك فى الحرب الإيسيورية التى وقعت فى جنوب آسيا الصغرى (492- 497م)، ضد «لونجينوس» أخى الإمبراطور «زينو»، وفى الحرب الأنسطاسية ضد بلاد فارس (502- 505م). وفى مدة حكمه أيضاً، أعاد تحصين الحدود الشرقية الرومانية، وبنى قلعة «دارا» فى مواجهة القلعة الفارسية «نصيبين»، وأيضاً قلعة «دوريس» الحصينة على البحر الأدرياتيكى فى «دورس».
ويذكر بعض المؤرخين قصة عن اختياره من يخلُفه فى الحكم من بين أبناء أخيه الثلاثة، لذا قام بوضع رسالة بين ثنايا أحد الكراسى الثلاثة، وأحضرهم مؤمناً أن من سيجلس على الكرسى الذى يحوى هذه الرسالة هو الوارث للحكم، إلا أن اثنين من الأبناء جلسا على كرسى واحد ولم يجلس أحد على الكرسى الذى يحوى الرسالة! ثم قرر أن أول شخص يدخل حجرته صباح اليوم التالى يكون هو الإمبراطور التالى، وقد كان هذا الشخص هو «يوستين» رئيس حرسه. ثم تقرر هذا الأمر بعد موته وتولى «يوستين» الحكم من بعده.
– الإمبراطور «يوستين الأول» (518م- 527م)
وُلد فى «إيلى» قرب جنوب صربيا حالياً. وعمِل فى بَدء حياته راعياً للماشية. ثم هرب إلى القسطنطينية من غارات البربر، وهناك انتظم فى سلك العسكرية، وارتقى إلى أعلى المناصب فى أيام حكم «أنسطاسيوس» الأول. وبعد موت الإمبراطور، حصَل «يوستين» على حكم البلاد بالحيلة والخداع والغش، ولكنه أحاط نفسه بمستشارين موثوق بهم، فلما استقر به أمر الحكم، حكم بالعدل والرفق بالشعب. كذلك وضع نهاية للفتنة الدينية التى أُثيرت فى أيام سابقه، واهتم بأمن البلاد وتوطيد دعائم الراحة للرعية. وفى أثناء حكمه، أشرك معه «يوستينيان» ابن أخيه الذى حكم بالعدل فأحبه الشعب جداً.
وفى أيامه، كانت بعض الطوائف تقوم بدفع الأموال لملك فارس، وكان يحق للإمبراطور رعايتها، وسعى لفرض حكمه عليها. وما أن تحقق هذا حتى نُقض الصلح بين الروم والفرس، وبدأت الحرب بين الدولتين. إلا أن «يوستين» مات وتولى الحكم من بعده ابن أخيه «يوستينيان».
أمّا عن مِصر فى أيامه، فلم تنعم بأى مزايا مادية أو أدبية إلا بعض من الراحة والطمأنينة بعد انتهاء القلاقل والفتن بها. وفى أيامه تنيح البابا البطريرك «ديسقوروس». وكان بطريرك بيت المقدس «إيليا» قد أرسل رهباناً بهدايا وأموال جزيلة إلى الإمبراطور، وكتب إليه يطلب رفض ما كتبه البابا «ديسقوروس»، بابا الإسكندرية، عن الإيمان المسيحى الأرثوذكسى، وأنه يقبل الإيمان الملكى، الذى أقره الأباطرة السابقون فى مجمع خَلْقْدونية. وكاد «يوستين» أن يقبل كتابة بطريرك القدس، إلا أن الأخبار انتشرت فقدُم إليه البطريرك «ساويرس» بطريرك الملكانيِّين آنذاك وأبلغه بصحة اعتقاد البابا «ديسقوروس»، فأرسل فى جميع أنحاء الإمبراطورية أن يقبلوا إيمان البابا السكندرى. ولكن بطريرك أنطاكيا قام ضده فنفاه الإمبراطور وأقام بديلاً منه. أمّا عن بطريرك القدس «إيليا»، فقد جمع الرهبان ورؤساء الأديرة وحرموا الإمبراطور ومن يتبعه، فأمر «يوستين» بنفيه، فاجتمع البطاركة الملكانيون وأساقفتهم وحرموا الإمبراطور الذى لم يُبالِ بالأمر.
– الإمبراطور «يوستينيان» قيصر الأول (527- 565م)
خلف الإمبراطور «يوستين» فى الحكم ابن أخيه «يوستينيان» الأول الذى وُلد فى مَكِدونِيا. وسعى فى مدة حكمه لاستعادة عظمة الإمبراطورية الرومانية فى الشرق، واسترجاع ما فُقد منها فى الغرب. وكان هو أحد أهم الأباطرة، وربما آخر المتحدثين فيهم باللغة اللاتينية لغةً أولى. وقد أطلق على مدة حكم «يوستينيان» «استعادة الإمبراطورية»، وأُطلق عليه «الرومانى الأخير»، و«الإمبراطور الذى لا ينام» لِما أظهره من طاقة فائقة فى العمل.
وما إن أصبح يحكم منفرداً حتى قامت فتنة شديدة بسبب اختيار الإمبراطور لمستشارين من ذوى الكفاءة ولكنهم لا يَحظَون بشعبية كبيرة. وكادت تلك الفتنة أن تكلفه فقدان العرش مع بداية الحكم. وقد أجبروه على إقالة بعض من وُزرائه، ثم حاولوا الإطاحة به، ووضْع أحد أعضاء مجلس الشيوخ بدلاً منه. وفى أثناء اجتياح تلك الإضرابات والمظاهرات للبلاد، فكر «يوستينيان» فى الفِرار من العاصمة، إلا أنه قرر فى نهاية الأمر البقاء. وفى الأيام التالية، أمر بالقمع الوحشى للتصدى لأعمال الشغَْب التى تعدَّى قتل المدنيِّين فيها 30 ألف قتيل من المدنيِّين العُزْل فى ميدان سباق الخيل. وبسبب هذا الدمار الذى حدث فى البلاد قام الإمبراطور بتشييد عدد من المبانى الجديدة الرائعة، كان أبرزها الابتكار المعمارى لقُبة كاتدرائية «أجِيا صوفِيا».
ثم نشأ عديد من المشكلات السياسية التى أرسل فيها «يوستينيان» الجيوش لغزو القوطيِّين فى إيطاليا، والوَندال فى أفريقيا، كذلك قاد هو الجيوش لمحاربة بلاد فارس وحقق الانتصارات مما زاد من سَطوته ونفوذه.
– الفرس
أغار الفرس على الرومان فى أثناء بناء أحد الحصون بالقرب من مدينة «دارا»، فأرسل الإمبراطور قائدَ جيوش المشرق، فتحارب الجيشان وانتصرت الجنود الرومانية انتصاراً عظيماً. إلا أن قوات الجيش الفارسى توجهت إلى أرمينيا التى كانت منقسمة بين الروم والفرس، ولقرب بلاد الشام الخاضعة للإمبراطورية الرومانية من أرمينيا، اتجهت الجيوش الرومانية إلى أنطاكيا لحماية بلاد الشام حيث تقاتل هناك الفريقان. ولم تستطع الجيوش الرومانية تحقيق انتصارات كبيرة على الفرس ما جعلها محاصِرة أنطاكيا مدة طويلة. وفى أثناء تلك الفترة من الحصار، قُتل ملك الفرس وخلَفه ابنه، فطلب إليه الإمبراطور «يوستينيان» الصلح ورفع الحصار عن مدينة أنطاكيا، وقد استجاب ملك الفرس لطلبه. لكنّ ملك الفرس كسر عهده مع الإمبراطور فيما بعد وتحاربا بعد زحف الجيوش الفارسية نحو بلاد الشام.
– الوَندال والقوطيُّون
وما إن تعاهد الروم والفرس على الصلح والسلم حتى بدأ «يوستينيان» فى تجهيز جيشه لقتال قبائل «الوَندال» فى أفريقيا. واستمرت الحرب مدة عام انتهت بانتصار الجيوش الرومانية وأسْر ملك الوَندال الذى دخل القسطنطينية أسيراً. وبعد أن انتهى من حربه ضد الوَندال، أرسل الجيوش إلى إيطاليا لمحاربة القوطيِّين وفتح إيطاليا، وقد انتصرت جيوشه عليهم، ثم انتصر عليهم فى إسبانيا التى ضُمَّت إلى القسطنطينية.
وقد اهتم «يوستينيان» بوضع القوانين الملكية، فقد عهد إلى أهل العلوم بتنظيم اللوائح القانونية، واستخراج القوانين من الكتب الرومانية وتنقيحها. كذلك عمِل على إصلاح الأمور الدينية مولياً عنايته بالعقيدة المسيحية التى كان غيوراً جداً عليها.
وكان الإمبراطور «يوستينيان» محباً لمِصر جداً، عاملاً على نجاحها وتقدمها، ما حمله على عمل المعاهدات التِّجارية مع ملك الحبشة لجلب التجارة إلى الإسكندرية. وكان يحكم مِصر فى تلك الفترة نائب إمبراطورى ظالم، وضع أعباء مالية فادحة على أهل الإسكندرية، وكان ينفى كل من امتنع عن دفع الضرائب والغرامات. وأقام «يوستينيان» بطريركاً على الإسكندرية من قِبله، الذى رفضه الشعب المِصرى، فما كان منه إلا أن أحرق مدينة الإسكندرية، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ