تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الإمبراطور «أنسطاسيوس الأول» الذى اتسمت مدة حكمه بالحروب الخارجية والصراعات الدينية، وتولى «يوستين» الحكم من بعده. ثم تولى الحكم بعد موت «يوستين» ابن أخيه «يوستينيان» أحد أهم الأباطرة، وربما آخر المتحدثين فيهم باللغة اللاتينية لغةً أولى، الذى أُطلق على مدة حكمه «استعادة الإمبراطورية»، وأُطلق عليه «الرومانى الأخير»، و«الإمبراطور الذى لا ينام» لِما أظهره من طاقة فائقة فى العمل. وقد اهتم «يوستينيان» باستخراج القوانين من الكتب الرومانية وتنقيحها. وكذلك عمِل على إصلاح الأمور الدينية.
وكنا قد توقفنا عند محبة الإمبراطور «يوستينيان» لمِصر واهتمامه بها جداً وبنجاحها التجارى، وأن النائب الإمبراطورى آنذاك كان ظالماً، فأثقل كاهل أهل الإسكندرية بالغرامات والضرائب نافياً كل من امتنع عن الدفع.
– الإمبراطور والإمبراطورة «ثيئودورا» ومِصر
تزوج الإمبراطور «يوستينيان» بـ«ثيئودورا» البارعة الجمال التى كان لها تأثير عظيم فيه، فهى التى شدَّدته فى أثناء الشغَْب والثورة ضده رافضة الهرب من البلاد، مما جعله يتصدى للفتن القائمة ويستقر له الحكم.
وكانت تتبع العقيدة الأرثوذكسية ما جعل لها دوراً كبيراً فى رفع المعاناة والمظالم التى تعرض لها أقباط مِصر على يد الإمبراطور الذى قام على كنيسة الإسكندرية، واضطهد المِصريِّين بسبب رفضهم الانقياد إلى إيمان الملك المخالف للأرثوذكسية.
فقد تعرض البابا «ثيئودوسيوس الأول» الـثالث والثلاثون فى بطاركة الإسكندرية لكثير من المتاعب من قِبل أتباع مذهب الملكيِّين الذى تتبعه المملكة، حتى إنه ابتعد عن الكرسى المرقسى سنتين، فطلب المِصريُّون إلى حاكم مِصر آنذاك عودة بطريركهم. وإذ رأى غضبهم والإصرار على عودة بطريركهم خاف منهم، وأرسل إلى الإمبراطورة «ثيئودورا» يُعْلمها بالأمر التى أخبرت بدورها زوجها فترك لها التصرف، فتدخلت بحكمة حتى عاد البابا إلى كرسيّه فى الإسكندرية. وما لبِِثت الأمور أن هدأت قليلاً حتى أعاد الإمبراطور الأمر طالباً من الأب البطريرك السكندرى أن ينشر الإيمان الملكانى واعداً إياه بمنحه كرسى البطريركية والوِلاية فى مِصر والسلطان على جميع أساقفة أفريقيا. أمّا إذا رفض، يخرج من الكنيسة ويذهب إلى حيثما يريد. وقد رفض البابا «ثيئودوسيوس» التخلى عن إيمانه ومعتقداته، فترك الكنيسة متجهاً إلى صَعيد مِصر يعلِّم الشعب ويثبِّتهم على عقيدتهم واحتمال الألم من أجل إيمانهم.
وما إن علِم الإمبراطور حتى رسم شخصاً يُدعى «بولُس النيسى» بطريركاً لمصر، وأرسله فى حراسة عدد كبير من القوات الرومانية. وكعادة المِصريِّين لم يقبلوه ولا اعتبروا له وجود بينهم، واستمر الحال هكذا عاماً تقريباً. وعندما رأى أن المِصريِّين لن يقبلوه بطريركاً عليهم، لجأ إلى الإمبراطور وأخبره برفض المِصريِّين رئاسته الدينية عليهم ما جعل «يوستينيان» يغضب بشدة، ويأمر بإغلاق جميع كنائس الإسكندرية، وبعدم الإذن لأحد فى دخولها. وأدى هذا الأمر إلى حَُزَْن شديد سرى بين المِصريِّين، إلا أنهم شيدوا كنائس أخرى ليصلّوا فيها، ومنها كنيسة أطلقوا عليها اسم «الكنيسة الملائكية». وما إن علم الإمبراطور بما حدث حتى أمر بفتح جميع الكنائس ووضعها تحت سلطان أتباعه. ولم يستمر «بولُس» البطريرك الملكانى بعد ذلك طويلاً إذ كان مكروهاً ليس من المِصريِّين فحسْب بل من بعض الرومانيِّين لقسوته، فقد تسبب فى تعذيب أحد الشمامسة وموته، فرفع أهله دعوى إلى الإمبراطور الذى طلب التحقيق فى الأمر، وحُكم على «بولُس» بالنفى والعزل والحرمان من منصبه.
ثم عين القيصر بطريركاً آخر يُسمى «زيلوس»، ومرة أخرى يرفض المصريُّون أن يكون لهم بطريركاً آخر سوى البطريرك «ثيئودوسيوس»، فعاملوه كما عاملوا سابقه «بولُس».
وفى كل تلك الأمور، كانت الإمبراطورة «ثيئودورا» وعلماء البلاط الملكى غير راضين بمعاملة الإمبراطور القاسية للأرثوذكسيِّين؛ فكانوا يساعدون المسجونين والمضطهَدين. ونصحت الإمبراطورة زوجها بالاعتدال فاستجاب لطلبها. لكن لم تمر إلا مدة وجيزة حتى عاد إلى اضطهاد الأرثوذكسيِّين وسلب كنائسهم.
وحدثت فتنة فى الإسكندرية، قام اليهود باستغلالها وقتلوا كثيراً من المَسيحيِّين. وكان الملكانيِّون يقومون بأعمال عنف ضد المِصريِّين الذين اشتد غضبهم ضد الإمبراطور، حتى صار عداء شديد بين المِصريِّين والرومانيِّين، وانفصلوا إلى فريقين فى الأرض، واختار كل فريق لوناً خاصاً به: فللمِصريِّين الأخضر، وللرومانيِّين الأزرق.
أيضًا لعِب وُلاة مِصر من قِبل الإمبراطورية الرومانية دوراً فى زيادة الفجوة بين المِصريِّين والأباطرة الرومان عندما ساعدوا على سلب حقوق بطاركة الإسكندرية، ما جعل الأقباط يشعرون برفض كل ما هو من قِبل الحكام المتعسفين، فأبطلوا استخدام اللغة اليونانية فى كنائسهم وعادوا يصلّون بلغتهم الأصلية، وترجموا الكتب الدينية إليها. وبعد موت الإمبراطور «يوستينيان» خلفه الإمبراطور «يوستين الثانى».
– الإمبراطور «يوستين الثانى» (565- 578م)
بعد موت «يوستينيان»، قام كبار أعيان الدولة والنبلاء بوضع «يوستين» ابن أخته على عرش الإمبراطورية بعد أن تردد أنه أوصى بالعرش إليه فى لحظاته الأخيرة، ولٰكن المؤرخين فى العصر الحديث يشككون فى صحة تلك الوصية. وهكذا جرت مراسم ذهاب «يوستين» وزوجته «صوفيا» إلى القصر الإمبراطورى، وتتويجه فى اليوم التالى إمبراطوراً للبلاد باسم «يوستين الثانى» على يد بطريرك القسطنطينية.
وما إن تولى الحكم حتى قام بتسديد ديون الإمبراطور السابق، وخفض النفقات. وكان حسن السيرة، مستقيماً، عادلاً منصفاً للمظلومين، ففرح أفراد الشعب به، وأخلصوا له فى محبته، واعتبروه أنه هدية الله إليهم بعد أزمنة شديدة قاسية مرت بهم. كما أعلن سياسة التسامح الدينى بين المذاهب المَسيحية، ما أدى إلى فترة من الهدوء والراحة. ولكن مع بَدء عام 517م بدأ سياسة الاضطهاد مرة أخرى على الأُرثوذُكسيِّين.
وكذلك عدْل الإمبراطور واستقامته لم يستمرا على النهج نفسه، فقد تغيرت أحواله وبدأ فى الاهتمام بذاته وملذاته، ومارس الظلم والقسوة على رعيته. كما أنه ترك تدبير أمور الحكم لزوجته «صوفيا» ما أدى إلى تدهور ضعف شؤون البلاد، التى كان قائماً عليها أحد الأمراء من أيام الإمبراطور السابق يُدعى «نرسيس»، كان يعمل على الارتقاء بأمور الإمبراطورية ورفع شأنها. وقد وشت به الإمبراطورة «صوفيا» لدى زوجها حتى خلعه من منصبه.
كما كسر «يوستين الثانى» الاتفاقية بين بلاده وبلاد فارس، ما أدى إلى نشوب الحرب بين الدولتين، فأغار الفرس على المقاطعات الرومانية وقتلوا ونهبوا وأسروا كثيرين، واجتاحوا مقاطعة سوريا واستولَوا على قلعة «دارا» أهم الحصون الاستراتيچية فيها. أمّا فى الغرب، فلم يستطِع الإمبراطور إيقاف قبائل «اللومبارد» بزعامة ملكها «ألبوين» من مهاجمة إيطاليا فى عام 568م، التى فى سنوات قلائل تمكنت من السيطرة على كثير من الأراضى الإيطالية.
أمّا عن مدة حكمه، فقد ذكر عنه المؤرخون أنه سار سيرة رديئة جداً من الظلم والقسوة مع رعيته. وطلبت منه زوجته «صوفيا» أن يتبنى «طيباريوس قسطنطين» ابناً له وأقامه قيصراً فى 574م. وقد ذكر عنه أحد المؤرخين، بريفيت أورتون، أنه كان: «رجلاً صارماً، مبهوراً بالأمجاد التى صنعها الإمبراطور السابق، وقد وقعت من نصيبه مهمة قيادة إمبراطورية منهكة القوى وضعيفة الحماية من خلال محنة شديدة الوطأة وحركات جديدة للشعوب». وأردف أورتون: «أمّا فى الشؤون الخارجية، اتخذ أسلوب الرومانى غير المقهور، ما نجم عنه الكوارث بسبب فقره للواقعية، وقد انتهى به الحال إلى فقدان صوابه. كانت القوى الأجنبية هى التى استهان بها وحاول خداعها بعناده المتعالى، مع أنه كان على دراية كاملة بالأوضاع المالية المتدنية وبوضع الجيش الرومانى».
وقد تردد أن الإمبرطور «يوستين الثانى» قد فقد عقله، فكان يجول عبر رُدهات القصر على عرش موضوع على عجلات وكان يعض الحاضرين! كما كان يأمر بعمل الحفلات الموسيقية فى قصره باستمرار لتهدئة عقله ونفسه، وقد حكم البلاد وقتئذ «صوفيا» و«طيباريوس قسطنطين» مدة أربعة أعوام حتى موته.
أمّا عن أمور مِصر فى عهده، فقد ترك الناس يختارون المذهب الذى يتبعونه بحريتهم، ما جعل الكنيسة القبطية تستعيد بعضاً من الكنائس التى اغتُصبت منها، وتهدأ أحوال المِصريِّين والشعب، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى