No Result
View All Result
استعرضنا في مقالات سابقة حكام “مِصر” في زمان خلافة “الأَمِين” وحربه مع “المأمون”، وتأثر “مِصر” الشديد بتلك الحرب إذ شهِدت صراعات وحروبًا عنيفة بين وُلاة وأنصار كل منهما أدت إلى امتلائها بالاضطرابات والقلق والقتل. وبدأنا الحديث عن الخليفة “المأمون” الذي يقسَّم زمن حكمه إلى مدتين أُولاهما ١٩٨-٢٠٤هـ (٨١٣-٨١٩م) التي قضّاها في مدينة “مَرْو”، حيث كانت يد “الفضل بن سهل مطلَقة في “إدارة شُؤون الدولة، الذي قال عنه بعض المؤرخين إنه قام بواجبه على أكمل وجه، في حين ذكر آخرون أنه لم يكُن يُطلع الخليفة “المأمون” على ما يجري في أنحاء الخلافة، وأنه استصدر أمرين من الخليفة لإبعاد كل من القائدين “طاهر بن الحُسَين” و”هَرْثَمة بن أَعيَن” عن “بغداد” فازدادت الاضطرابات في المدينة واندلعت الثوْرات.
كان الأمر الأول يتعلق بتعيين شقيقه “الحسن بن سهل” على جميع البلاد التي افتتحها “طاهر” مثل: “فارس”، و”الأهواز”، و”البصرة”، و”الكوفة”، و”الحجاز”، و”اليمن”؛ فأرسل إلى “طاهر” أن يسلِّم الوالي الجديد جميع مسؤوليات الحكم، وأن يخرج هو ـ أيْ “طاهر” ـ إلى “الرَّقة” لمحاربة “نصر بن شَبَث” الذي ثار من أجل مقتل صديقه “الأمين”. فخرج “طاهر” بحسب أمر الخليفة، غاضبًا إذ كان الأمر يتضمن توليه حكم “المُوصِل” و”الجزيرة” و”الشام” و”المغرب”؛ وانتصر “نصر” في القتال واستمر في ثورته حتى عام ٢١٠هـ (٨٢٥م).
أما الأمر الثاني، فكان يتعلق بالقائد “هَرْثَمة”، حين أمره بالتوجه إلى “خُراسان” فترك “العراق” قاصدًا إليها. وبذٰلك خلت “العراق” من القوى الحاكمة التي يمكنها أن تعيد الأمور إلى نصابها بعد ما تعرضت له من حصار وحُروب؛ وقد تردت الأمور فيها إذ غضِب “بنو هاشم” ووُجهاء البلد من استسلام “المأمون” لوزيره “الفضل”، ففقدت البلاد نظامها وأمنها وقامت الثوُرات والفتن.
ثورة “مُحمد بن إبراهيم”
ثار “مُحمد بن إبراهيم”، يسانده أحد رجال “هَرْثَمة” المخلصين ويُدعى “أبا السرايا السَّريّ بن منصور”، وتمكن من الاستيلاء على “البصرة” وكثير من مدن “العراق”، وأصدر عملات تحمل اسمه، وهزم جيش “الحسن بن سهل”، وبدأ في نشر دعوته في بلاد العرب؛ لٰكنه مات فجأة عام ١٩٩هـ (٨١٥م)؛ فأقام “أبو السرايا” مكانه “مُحمد بن مُحمد بن يزيد” وكان من العَلويِّين، فأرسل “الحسن” جيشًا ثانيًا فهزمه “أبو السرايا” هزيمة نكراء فكبُر شأن “أبي السرايا” والعَلَويِّين، ما جعل “الحسن بن سُهيَل” يخشى عواقب الثورة والفتن؛ فأرسل إلى القائد “هَرْثَمة” يطلب إليه العودة إلى “بغداد” للقضاء على الثورة وكان في طريقه إلى “خُراسان”، فأبى ولٰكن “الحسن” ألح عليه فعاد وتمكن من الاستيلاء على “المدائن” وهزم قوات الثائرين. ودخل “هَرْثَمة” إلى “الكوفة” وأمَّن أهلها، في حين فر “أبو السرايا” إلى “القادسية” ثم “السوس” من “بلاد فارس”، وهناك حارب قوات “المأمون” فجرَّحوه، ثم أُلقيَ القبض عليه وقُتل؛ وبذٰلك انتهت ثورة دامت قرابة عشَرة أشهر. ثم قام جيش “المأمون” بقيادة “هَرْثَمة” باستعادة جميع المدن التي كان الثوار قد استولَوا عليها فاسترد “البصرة” و”الحِجاز” و”اليمن” وغيرها من المدن.
موت “هَرْثَمة”
نجح “هَرْثَمة” في إخماد الثوْارت التي قامت بـ”العراق” والحِجاز و”اليمن”، وأمر “المأمون” أن يتولى “هَرْثَمة” حكم “سوريا” و”الحِجاز”. ولٰكن “هَرْثَمة” قرر المُضي إلى “مَرْو” للقاء “المأمون” ليكشف له ما آل إليه حال البلاد في أنحاء مملكته وخطر ابتعاده عن “بغداد”. ويسرد بعض المؤرخين أنه ما إن شعر “الفضل بن سهل” بمجيء القائد “هَرْثَمة” وما ينويه، حتى أخذ يوقع بينه وبين “المأمون” حتى تغير “المأمون” تجاه القائد “هَرْثَمة”.
وعند وصول “هَرْثَمة” إلى “المأمون”، تحدث إليه بغضب شديد وعنَّفه ونسب إليه ثورة “أبي السرايا” لأنه كان من جُنوده وخالف أوامره ـ أيِ الخليفة ـ في عدم ذَهابه لاستلام منصبه. وما إن همَّ “هَرْثَمة” بالحديث حتى هجم عليه الحرس وضربوه ضربًا مبرِّحًا، مقتادين إياه إلى السجن، فمات فيه بعد زمن قصير متأثرًا بجروحه. وقد قال بعض المؤرخين أن موته كان بسبب أناس أرسلهم “الفضل” إليه في حبسه فقتلوه؛ وقال أحدهم: “وهٰكذا انطوت صحيفة هٰذا القائد العظيم، الذي ذَبَّ (دفع ومنع وحامى) عن مُلك «المأمون»، وكافح في توطيد دعائم الدولة في «إفريقية» إلى «خُراسان»، والذي يرجع إليه الفضل الأكبر في انتصار «المأمون» على أخيه «الأمين». ومات هٰذا القائد ضحية السِّعاية (الوشاية والنميمة) ونكران الجميل، كما مات أمثاله مِن قبل من صناديد هٰذه الدولة جراء السعاية والمنافسة، وجراء أعمال البِطانة (الخاصة والأصفياء والمقربين) ودسائس الحاشية.”. وقد أعقب موت “هَرْثَمة” ثورة الجنود في “بغداد” حيث طردوا حاكمها “الحسن بن سهل”، واضطربت البلاد وعمت الفتن وازداد السلب والنهب والقتل فيها، واستمر الحال هٰكذا عدة أشهر، حتى اتفق رأي وُجهاء المدينة على الوقوف في وجه ذٰلك الانفلات فعمِلوا على استعادة أمن “بغداد” وكان لهم ذٰلك؛ ثم أرادوا أن يصير “المنصور بن المهديّ” خليفة عليهم فرفض، ولٰكنه قبِل أن يحكم المدينة تحت سلطان “المأمون”. ثم قام وُجهاء المدينة بمصالحة “الحسن بن سهل” وإعادته لحكم “بغداد” فرجَع إليها عام ٢٠٠هـ (٨١٦م)، وعاد الهدوء إلى المدينة؛ إلى أن عبث بها الاضطراب مرة ثانية جراء بَيعة “المأمون” للخلافة من بعده إلى “عليّ الرضا”.
صراع جديد
أراد الخليفة “المأمون” أن يختار للخلافة من بعده أحد العَلَويِّين؛ فأعلن عام ٢٠١هـ (٨١٧م) أنه عهِد الخلافة من بعده لـ”عليّ الرضا بن موسى الكاظم”، وأعلن أنه لم يجد بين العباسيِّين من يليق بالخلافة؛ فاختار “عليّ الرضا”، وهو ما جعل أهل “بغداد” يستشيطون غضبًا ويتفقون على خلع “المأمون”، ثم انتخبوا “إبراهيم بن المهديّ” ـ وكان صديقًا للخليفة “الأمين” ـ ونودي به خليفة في “بغداد”. إلا أن الأمور لم تَسِر في نصابها الصحيح؛ فقد كان “إبراهيم” تعوزه القدرة على إدارة شُؤون البلاد ولم يستطِع تحمل أعباء القيام بأعمال الدولة. واضطربت أمور البلاد، ونشِبت الحرب بين جند “المأمون” وجند الخليفة الجديد. وقد انتقلت الثورة من “بغداد” إلى باقي المدن كـ”الكوفة” وغيرها، وشاعت الفوضى في البلاد، فأسرع “عليّ الرضا” بلقاء “المأمون”، وأبلغه ما خفي عنه من أحداث في أنحاء الدولة، وما أحدثته تصرفات “الفضل” من وُقوع الشقاقات والاضطرابات. فغضِب “المأمون” وأخذ في البحث عن حقيقة الأمور وعرَف أن ما وصله صادقًا. ترك “المأمون” مدينة “مَرْو”، واتجه إلى “بغداد” عملاً بنصيحة أصدقائه وصاحبه وزيره “الفضل بن سهل”، وفي أثتاء سفره توقف للاستراحة، حيث قُتل الوزير “الفضل” وكان ذٰلك عام ٢٠٢هـ (٨١٨م)، فأمر “المأمون” بالقبض على قتَلته وإعدامهم؛ ثم تابع سيره حتى وصل إلى “طوس” حيث قبر أبيه، فقضَّى عدة أيام للراحة من عناء السفر. ومع بداية عام ٢٠٣هـ (٨١١م)، مات “عليّ الرضا” فجأة وقد حزن “المأمون” عليه. فأرسل “المأمون” يخبر أهل “بغداد” بموت “عليّ الرضا”، وطلب منهم العودة إلى طاعته بعد زوال سبب ثورتهم، وقد لاقت دعوته استجابة منهم وبخاصة بعد ما آلت إليه البلاد من ضعف بسبب إدارة “إبراهيم” غير الحكيمة. وهٰكذا اتجه “المأمون” صوب “بغداد”، و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ
No Result
View All Result