كنا قد تحدثنا عن مدة حكم الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثانى»، واستعرضنا الأحداث والحروب التى تصدى لها، وتناولنا أهم الأعمال التى أُنجزت فى عصره، مثل: بناء جامعة القسطنطينية عام 425م، والعمل على إنشاء نظام كامل للقانون، ونشر العمل باسم «الدستور الثيئودُوسيانى» فى 438م.
وأيضاً قدمنا قصة «الفتية السبعة» الذين ناموا نَومة الموت فى عهد «دقلديانوس» ثم عادوا إلى الحياة فى السنة الخامسة عشْرة من حكم «ثيئودوسيوس الثانى»، التى تُعرف فى الإسلام بقصة «أهل الكهف».
مات «ثيئودوسيوس الثانى» فى 450م، وتولى أمر الإمبراطورية من بعده أخته «بولِكِيرِيا»، وزوجها «مارقيان».
الإمبراطورة «بولِكِيرِيا» والإمبراطور «مارقيان» (450- 457م)
بدأ حكم «بولِكِيرِيا» عام 414م مع تنازل «أُنِثِيميوس» عن وِصايته للإمبراطور «ثيئودسيوس الثانى» لتصبح هى وصياً على الإمبراطور الصغير، وتنال لقب «أُغسطس» فى العام نفسه. وظل لها التأثير الكبير فى الإمبراطور حتى ظهور الوزير «كريسافِيوس» فاختفت عن أمور الحكم.
بعد موت الإمبراطور «ثيئودوسيوس الثاني» عادت «بولِكِيرِيا» إلى حكم البلاد، فقد كانت ذات حكمة موصوفة بالعقل والآداب ما وحد كلمة جميع طوائف الشعب ومسؤولى البلاد من أمراء الجيش وأعيان القسطنطينية على اختيارها إمبراطورة للبلاد.
وكان لها من الحزم والقدرة السياسية العظيمة فى تدبير شؤون البلاد ما يُتيح للبلاد فرصة النهوض من كبوتها واستعادة أمجادها القديمة، بعد أن ساءت أمور البلاد فى عهد كل من أبيها وأخيها.
وفى هذا ذكر بعض المؤرخين: «وكان السبب فى انتخابها انحطاط مقام الدولة الرومانية والإهانة التى لحِقت بها فى أيام أخيها وأبيها، فاقتضى الحال رفع شأن الدولة وتقوية شوكتها، فاختار أكابر المملكة هذه الأميرة لتكون ملكة عليهم وذلك لِما يعهدونه من حكمتها وحُسن تدبيرها».
وبذٰلك صارت «بولِكِيرِيا» أول امرأة تحكم المملكة الرومانية. وما أن أمسكت بزمام الحكم حتى بدأت فى محاسبة أعداء الدولة ما أضفى عليها هَيبة لدى الرعية.
ومع أن الإمبراطورة كانت قد نذرت عدم زواجها إلا أنها خشت من حدوث انشقاق بين الرعية لعلمها بأن المجلس الرومانى لن يسمح بحكم امرأة بمفردها للبلاد، فقررت الزواج من أحد أكابر رجال المجلس وهو الأمير «مارقيان»، الذى كان فى سن الستين حينذاك، وقد أشركته معها فى الحكم على أن يؤيد سياستها ويحترم نذرها، فوعدها ونفَّذ وعده.
ولمّا استقر به الأمر، حكم بالعدل والحزم بين الرعية فأحبه شعبه حباً شديداً.
«مارقيان» (450- 457م)
كان «مارقيان» ابناً لأحد الجنود فسلك هو أيضاً فى الجندية، واشترك فى الحرب ضد الفرس عام 421م. ثم خدم خمس عشْرة سنة قائداً تحت قيادة «آردابورِيوس» وابنه «آسبر» قائدَى القوات الرومانية فى الشرق.
وقد حارب قبائل الوندال فى أفريقيا من 431- 434م حيث أُسر، ثم أُطلق سراحه.
وفى 450م، تزوج من «بولِكِيرِيا» ليشاركها حكم الإمبراطورية الرومانية الشرقية. وكان أول ما قام به الإمبراطور هو أمره بقتل الوزير «كريسافِيوس»، مستشار الإمبراطور السابق، ولم يكُن يحظى بأى شعبية، وكان عدواً للإمبراطورة.
«مارقيان» يواجه «آتيلا» ملك الهُونّ
وما أن استتب الحكم حتى أرسل «آتيلا» ملك الهُونّ بتشديد وكبرياء إلى الإمبراطور «مارقيان» يطالبه بالأموال التى تدفعها القسطنطينية ضريبة لبلاده. فما كان من الإمبراطور إلا أن أرسل إليه سفراء يحملون رسالة إلى «آتيلا» بأن عهد انتهاك حرمة الدولة الرومانية قد انقضى، أمّا عن عهده فأعلن أنه لن يقدم شيئاً للهُونّ إلا باللِّين والاختيار، وأن تلك الأموال ليست فريضة على الإمبراطورية وإنما إعانة لبلاده بحسب معاهدات الملوك، وأن تهديدات «آتيلا» لن يكون الرد عليها سوى إرسال الجنود الأشداء لمحاربته. كذلك نُسبت إليه أيضاً عبارة قال فيها: «ليس لدىّ لآتيلا سوى الحديد- لا الذهب». وما أن وصلت الرسائل «آتيلا» حتى اغتاظ وقرر تدمير الدولة الرومانية وتخريبها.
ويذكر بعض المؤرخين أنه كتب إلى الإمبراطور يقول: «إن (آتيلا) مولاك وسيدك يأمرك أن
تجهز له قصرك عاجلاً لتلقاه فيه، فهو حاضر ليأمرك بما تقتضيه مصلحة البلاد». إلا أن «آتيلا» وصلته الأخبار عن تغير أحوال الإمبراطورية الرومانية وتقوِّى قيصرها وجيوشه، فخاف أن يدخل فى الحروب ضده طالباً الصلح.
وضع «آتيلا» فى نيته الاستيلاء على الإمبراطورية الشرقية بعد القضاء على الإمبراطورية الرومانية الغربية وتدميرها، فقام بتجهيز جيوشه واتجه صَوب إيطاليا لمحاربة الجيوش الرومانية، وقد تحارب الجيشان فى معارك عنيفة عدة ما بين كَرّ وفَرّ حتى تواجها. ويذكر المؤرخون أن «آتيلا» انبرى من بين صفوف الجيش، وقام بتشديد همم رجاله وخطب فيهم يستحثهم على مقاومة الرومان بشجاعة وثقة بالنصر.
ومن كلماته: «لا تخافوا شيئاً، فإنى رئيسكم وقائدكم، وصنم الحرب حاميكم، وقد تعودتُ النصر فيما مضى فلا أُحرم النصر فيما بقِىَ، وقد كفل لكم أيضاً النصرَ والتأييدَ جبنُ الروم وفتورُ همتهم، فهزيمتهم لدينا محققة». وهكذا ظل يتحدث إليهم مشجعاً إياهم فى الحرب.
والتحم الجيشان إلا أن الغلبة والنصر كانا للرومان ليفِرّ أعداؤهم، فتتبعوهم حتى طردوهم من البلاد. ولكنّ عزيمة «آتيلا» لم تضعُف، ففى 452م اتجه إلى إيطاليا وحاصر مدينة أكيلة ثلاثة أشهر حتى استولى عليها ودمرها، ثم اتجه نحو باقى المدن الإيطالية فاتحاً إياها حتى وصل إلى ميلان التى سُلمت له مفاتيحها دون حرب.
وقد خرّب كل المدن الإيطالية بالنهب والسلب والحرق وتدمير الأرض فهجر الشعب بلاده. وبعد انتصار الهونيِّين على الرومانيِّين، أرسل قيصر روما يطلب إليه الصلح وعقْد المعاهدات فوافق «آتيلا» واضعاً الشروط التى احتوت على طلبه الزواج بإحدى أميرات القيصرية الرومانية. ولكنه وُجد قتيلاً صبيحة زواجه هذا لتنتهى دولة الهُونّ التى ذكر عنها بعض المؤرخين: «لو بقِيَت دولته لشابهت دولة الإسكندر فى الفُتوحات». وقد ارتاحت الإمبراطورية الرومانية بموته.
موت «بولِكِيرِيا» (453م)
فى 453م ماتت «بولِكِيرِيا»، وجاء موتها صدمة لشعب القسطنطينية. ويذكر بعض المؤرخين أنها تركت جميع أموالها وممتلكاتها بعد موتها لتوزع على الفقراء.
حكم «مارقيان» منفرداً (453-457م)
انفرد «مارقيان» بحكم البلاد بعد موت الإمبراطورة، الذى استمر أربع سنوات، ثم مات عام 457م بمرض يُعتقد أنه الغرغرينا، ليُدفن إلى جوار «بولِكِيرِيا» فى كنيسة الرسل، ولينتهى حكم عائلة الإمبراطور «ثيئودوسيوس الأول» فى الشرق.
كانت الإمبراطورية الشرقية فى أيام حكم «مارقيان» تنعَم بالأمن والراحة والسلام، ولم تحدث خلالها أى أزمات سياسية أو عسكرية مثلما حل بالإمبراطورية فى الغرب آنذاك، حتى إن حكمه اعتُبر فيما بعد عصراً ذهبياً فى الإمبراطورية الشرقية، ومناقضاً للعنف الذى تعرضت له الإمبراطورية فى الغرب.
اهتم «مارقيان» بالإصلاحات الاقتصادية لبلاده مما أدى إلى تحسن أوضاعها، فقد طالب القناصلة بعدم إعطاء الجماهير الأموال، بل إعداد وإصلاح الأشغال العامة لهم. وسعى لتخفيف الضرائب عن الشعب، وقام بتقليل نفقات البلاط الملكى. كذلك تجنب تكاليف المشاريع العسكرية خارج حدود البلاد. وقد أعاد إعمار المناطق التى خُرِّبت سابقاً.
وأيضاً ساعد فى التغيير الجزئى لمرسوم «قسطنطين» الذى لا يأذن بزواج أعضاء مجلس الشيوخ من عامة الشعب، فخفَّف لهم بالزواج بأى امرأة فاضلة من طبقات الشعب.
وفى 452م، قام «مارقيان» بصد هجمات أعداء الإمبراطورية عن سوريا ومِصر. وقد حدث فى أيام حكمه أن يهود الإسكندرية قاموا بصلب جسم على مثال السيد المسيح فى يوم الفصح وعبثوا به، ما أثار مشاعر المَسيحيِّين وأدى إلى اندلاع فتنة كبيرة فى البلاد، وهو ما جعل الإمبراطور «مارقيان» يُرسل جيشاً عظيماً لتهدئة الأمور فى البلاد. وفى 456م، تصدى لبعض الاضطرابات التى حدثت على الحدود الأرمينية واستطاع إخمادها.
وفى أيام حكمه مع زوجته «بولِكِيرِيا» عُقد «مجمع خَلْقْدُونية» عام 451م، الذى فيه تعرض «البابا ديسقوروس»، الخامس والعشرون من بابوات الإسكندرية، لكثير من الاضطهادات بسبب رفضه رأى الإمبراطور، حتى إنه نُفى وتنيح فى منفاه. ويذكر بعض المؤرخين أن الإمبراطور «مارقيان» أراد التخلص من بابا الإسكندرية عقاباً للمِصريين الذين كانوا يناصبون الحكومة الرومانية العداء والنظر إليهم كعدو غاشم.
و.. وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى