تحتفل الكنيسة القبطية فى مِصر بعيد استشهاد كاروز ديارها «مار مرقس الرسول» فى الثامن من مايو. ومار مرقس هو أول من بشر بالمسيحية فى مِصر، ومؤسس الكرسى الرسولى العظيم بالإسكندرية، وأول بطاركتها، ولذا يُدعى بابا الإسكندرية «خليفة مار مرقس الرسول».
أسرة مار مرقس
كان القديس من أصل يهودى يعود إلى سبط «لاوى»، ويدعى أبوه «أرسطوبولُس» وأمه «مريم». وقد نشأ «مرقس» فى عائلة على قدر كبير من التقوى متمسكة بشريعة أجدادها. عاشت عائلة «مرقس» فى بلدة «إبرياتولوس» بإقليم «الخمس المدن الغربية» الذى كان يتبع حكم مِصر فى العصرين اليونانى والرومانى.
اشتغل والدا «مرقس» بالزراعة وكانا غنيَّين، حتى أغارت قبائل البربر على المنطقة فى أثناء حكم «أُغسطس قيصر» وسبَت كثيرين، وكان منهم والدا «مرقس». وبعد فقدان أموالهما قررا العودة إلى البلاد اليهودية بفلسطين، وأقاما قرب أورُشليم (القدس) فى قانا الجليل. ويذكر لنا المؤرخ «ابن المقفع» أن عودة أسرة «مار مرقس» تزامنت وظهور السيد المسيح وبَدء خدمته.
وكانت تربُط العائلة عَلاقة نسب بسِمعان بطرس، أحد تلاميذ السيد المسيح، الذى كان متزوجاً بابنة عم أو ابنة خال «أرسطو بولُس».
كذلك كان الرسول بَرنابا، أحد الرسل الذين اختارهم السيد المسيح، من أقرباء «مَرقس». وأيضاً يذكر بعض المؤرخين أنه كان يمت بصلة قرابة إلى «توما الرسول». وهكذا نشأ مار مَرقس فى وسط دينى صالح.
ميلاده
وُلد «مَرقس» فى القَيروان فى «الخمس المدن الغربية» قبل عودة والدَيه إلى أورُشليم (القدس). واهتمت أمه بتعليمه وتثقيفه، فتعلم اللغات: اليونانية واللاتينية والعبرية، كما درس كُتب الناموس والأنبياء.
كانت عودة العائلة فى وقت ظهور السيد المسيح، وبذلك رأى «مَرقس» السيد المسيح وعاصر تعاليمه ومعجزاته، وكان أحد السبعين رسولاً الذين اختارهم السيد المسيح، وقد شهِد بهذا كثير من المؤرخين، منهم المقريزى الذى كتب: «ومن هؤلاء السبعين مَرقس الإنجيلى. وكان اسمه أولاً «يوحنا». وعرَف ثلاثة ألسن: الفرنجى (اللاتينية) والعبرانى واليونانى.
أمّا مريم أمه، فكانت إحدى المريمات اللاتى تبِعن السيد المسيح وخدمنه. ويذكر التقليد الكنسى أن «مَرقس» اشترك فى عرس «قانا الجليل». وأنه هو الرجل حامل الجَرَّة الذى ذكره السيد المسيح لتلاميذه حين سألوه عن مكان إعداد الفصح: «فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: (اذهبا إلى المدينة فيُلاقيكما إنسان حامل جَرَّة ماء.
اتبعاه. وحيثما يدخل فقُولا لرب البيت: إن المعلم يقول: أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذى؟ فهو يُريكما عِلِّيَّة كبيرة مفروشة مُعَدَّة. هناك أعِدَّا لنا)». ويُذكر أيضّا عن «مَرقس» أنه كان يتبع السيد المسيح بعد القبض عليه فى «بستان جَثْسَيمانى»، فحاول بعض الشبان القبض عليه فأمسكوه من ردائه، إلا أنه ترك الرداء وهرب عارياً: «فتركه الجميع وهربوا. وتبِعه شاب لابساً إزاراً على عُريه، فأمسكه الشبان، فترك الإزار وهرب منهم عُرياناً».
أمّا بيت مار مَرقس فقد نال شهرة لم ينَُلها أى بيت آخر، ففيه: أكل السيد المسيح وتلاميذه الفصح، واجتمع الرسل للصلاة حتى ميعاد حلول الروح القدس وبَدء كرازتهم فى العالم. وقد أصبح بيت «مار مرقس» أول كنيسة فى العالم، وأُطلق عليه اسم «بِيعة صَِهيَُون». وتتفق كل الطوائف المسيحية فى هذا، إذ يذكر الأب «بول دورليان شينو» أن مَرقس عُرف باسم «ابن مريم» جارة المسيح ومُضَيِّفته، وأن: «بيت مريم حيث احتفل المسيح بالفصح الأخير كان على جبل صَِهيَُون على صخرة كبيرة».
وسجَّل «الكاردينال بارونيوس» عن بيت مار مَرقس: «كان مَِحط رجال السيد المسيح وتلاميذه… وقد كان هذا البيت أول كنيسة مسيحية».
كرازته
يٌعد «أرسطوبولُس» والد «مار مرقس» هو أول من آمن على يديه، وفى ذلك قصة شهيرة تقول إنه بينما كان مَرقس وأبوه سائرين فى طريقهما إلى الأردن، لاقاهما أسد ولبؤة. فطلب الأب من ابنه أن ينجو بحياته، إلا أن مَرقس صلَّى طالباً معونة السيد المسيح وإنقاذهما، فانشق الوحشان وماتا، وآمن آرسطوبولُس بالسيد المسيح. وقيل إنه مات بعد هذا الحادث بقليل.
بشارته فى العالم
بدأ «مار مَرقس» كرازته مع الرسل أولاً، فقد كرز أولاً مع «بطرس الرسول» فى أورُشليم، وبيت عَنْيا، واليهودية.
ثم ذهب مع بولُس وبَرنابا الرسولين فى رحلتهما التبشيرية الأولى وبشر معهما فى نواحى: سوريا وخاصة أنطاكية، وسَلُوكية، وقبرص، وبافوس حتى وصل إلى بَرْجة بَمفِيلِيَّة، ثم فارقهما هناك ورجع إلى أورُشليم (القدس).
وبعد مجمع أورُشليم (50/51م)، ذهب للكرازة مع بَرنابا الرسول فى أنطاكية وقبرص. وقد تعِب مار مرقس فى تأسيس الكنيسة فى روما، وكُولُوسِّى، بحسب ما تذكر كثير من الكنائس عن دَور مار مرقس فيها، فأهل «البندقية» يتخذوه شفيعهم، وكذلك «أكويلا».
أمّا كرازة مار مرقس الأساسية فكانت فى أفريقيا: فى الخمس المدن الغربية، والإسكندرية والأقاليم المصرية حيث أسس «كرسى الإسكندرية» الذى امتد بعد استشهاده إلى النوبة والسودان وإثيوبيا.
ويٌضاف إلى كرازته الواسعة أنه كتب «إنجيل مرقس» الذى يَعرِض فيه حياة السيد المسيح، وأنه وضع صلوات القداس بالكنيسة، وأسَّس المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية.
مار مرقس فى الإسكندرية
ذكرنا فى مقالات سابقة إنشاء «الإسكندر الأكبر» مدينة الإسكندرية التى أصبحت مدينة ثقافية ومناراً للعالم آنذاك، وقد كانت مَِحط كبار العلماء والفلاسفة من جميع أنحاء العالم، كما كانت مركزاً تجارياً مهماً. وحين وصل مار مَرقس الإسكندرية كان لا بد له أن يتصدى للأوضاع الدينية المعقدة آنذاك، فقد كانت الإسكندرية تشتمل على الديانات: الفرعَونية القديمة، واليونانية، الرومانية، واليهودية التى انتشرت فى الإسكندرية خلال حكم البطالسة، مع وجود قلة من اليهود كانت قد سمعت عن المسيحية.
وصل مار مَرقس إلى الإسكندرية قادماً من الخمس المدن الغربية فى الأغلب (60/61م)، بعد أن سار مسافة طويلة جعلت حذاءه يتمزق، فبحث عن إسكافى يصْلحه له، فوجد أحدهم وكان يٌدعى «إنيانوس». وبينما «إنيانوس» يصْلح الحذاء، إذ يدخل المِخراز فى إصبَعه ويصرخ: «يا الله الواحد!». فعلى الفور شفى مار مرقس أُصبُع «إنيانوس» بمعجزة. ثم بدأ يحدثه عن السيد المسيح. دعى إنيانوس «مار مرقس» ليستكمل حديثه فى بيته ليصير بعدها هو وأسرته مسيحيين.
جال الرسول مار مرقس ربوع مِصر مبشراً فيها بالمسيحية فانتشرت سريعاً فيها وآمن بها عدد كبير من المِصريِّين. ولم يكُن تأثير مار مرقس فى اتساع الكرازة فقط بل أيضاً فى عمق الحياة التى وصفها كثير من المؤرخين- ومنهم الفيلسوف «فيلو»- الذى ذكر أن المؤمنين آنذاك كانت حياتهم تمتلئ بقراءة الكتب المقدسة والتأملات والصَّوم حتى غروب الشمس، بالإضافة إلى العطاء بلا حدود.
مدرسة الإسكندرية اللاهوتية
أسس مار مرقس مدرسة لاهوتية لتستطيع التصدى أمام المدرسة والأفكار الوثنية آنذاك. وقد عهد بها إلى العلّامة «يُسطس» الذى أصبح فيما بعد السادس من بابوات الإسكندرية. كانت المدرسة تدرِّس العلوم الدينية، وأيضاً الفلسفة، والمنطق، والطب، والهندسة، والموسيقى، وغيرها من العلوم.
اشتُهرت مدرسة الإسكندرية جداً، حتى حضر إليها العلماء والفلاسفة من جميع بلاد العالم. وقد تخرج فى هذه المدرسة كثير من الأساقفة المشهورين الذين صاروا بطاركة على الكرسى المَرقسى.
مار مَرقس يغادر مِصر
وما أن ازداد الإيمان حتى اشتد غضب الوثنيِّين وتآمروا على قتل مار مَرقس. فطلب إليه المؤمنون أن يغادر مِصر مدة قصيرة حتى تهدأ الأمور، فذهب لتفقُّد خدمته فى الخمس المدن الغربية، ومعاونة بولُس الرسول فى روما. وقام بسيامة «إنيانوس» أسقفاً على الإسكندرية قبل مغادرته. ظل «مار مرقس» فى روما حتى استشهاد الرسولين «بطرس» و«بولس»، فرجع إلى الإسكندرية ليجد انتشار الإيمان فى مِصر وتزايُد عدد المؤمنين الذين قاموا ببناء كنيسة فى حى «بوكاليا»، وهى الآن الكنيسة المَرقسية الكبرى بالإسكندرية.
اهتم مار مَرقس بافتقاد شعبه، وجال فى البلاد المِصرية للتبشير وتثبيت الإيمان، حتى إنه لٌقب بـ «مُبَدِّد الأوثان».
ومع نجاح وانتشار المسيحية فى أرض مِصر، ازدادت كراهية الوثنيين له، الذين رأَوا فيه خطراً شديداً على دياناتهم فقرروا التخلص منه، وكانوا يتحيَّنون الفرصة الملائمة لذلك. وفى 68م، عندما كان يحتفل المَسيحيُّون بعيد القيامة الذى صادف احتفال الوثنيين بعيد الإله «سيرابيس»، تجمَّع الوثنيُّون لقتل مار مَرقس! فهجموا على الكنيسة وقبضوا على القديس وربطوه بحبل ضخم، وجروه فى شوارع وطرقات وأزقة المدينة حتى سالت دماؤه وتمزق لحمه على أرض مصر!!! ثم أودعوه السجن. وفى صباح اليوم التالى، ربطوه بالحبال وجروه فى المدينة وكان هو يصلى لأجلهم طالباً لهم المغفرة!!! وظل هكذا حتى استُشهد. إلا أنهم لم يتوقفوا بل قرروا حرق جسده!!!
وما أن أعدوا الحطب والنار حتى هبت عاصفة شديدة وأمطار غزيرة أدت إلى انطفاء النار وتفرُّق الشعب.
فحضر عدد من المؤمنين وأخذوا جسد أبيهم، وحملوه إلى الكنيسة، ووضعوه فى تابوت، وأقيمت الصلوات، ثم دُفن فى قبر هذه الكنيسة، وأصبحت الكنيسة باسم «مار مرقس».
إن «مار مرقس» الذى يجُلُّه العالم ويعترف بدوره وخدمته وتعبه فى كثير من البلاد هو «كاروز ديار مِصر»…
مصر الحلوة التى الحديث عنها لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى