«الرسولىّ»، «عمود الكنيسة»، «أبو الأرثوذكسية»، «حامى الإيمان»، «أروع أساقفة الإسكندرية»؛ جميعها ألقاب أُطلقت على البابا «أثَناسيوس» خليفة مار «مَرقس الرسول» على كرسىّ الإسكندرية، العشرين من الآباء البطاركة. وقد احتفلت الكنيسة القبطية بذكرى هذا القديس فى الخامس عشَر من مايو. ويُعد دَور البابا «أثناسيوس» وحفاظه على الإيمان غير مقصور على مِصر بل هو دور عالمى، حتى قيل عنه: «لولا أثَناسيوس لصار العالم كله آريوسيًّا». عاصر البابا «أثناسيوس» خمسة أباطرة، ونال كثيرًا من الشدائد فى حياته، إلا أنه ظل أمينًا لإيمانه راعيًا للكنيسة المِصرية.
نشأة «أثَناسيوس».
«أثَناسيوس» اسم معناه «خالد». وُلد عام ٢٩٦م من أبوين وثنيِّين بالإسكندرية، وإن كان بعض المؤرخين ذكروا أنه وُلد بالصعيد، ثم نزحت عائلته إلى الإسكندرية، وتُوفى والده وهو صغير. أصبح مسيحيًّا فى صباه، ودرس العلوم اللاهوتية بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية التى أنشأها مار «مَرقس الرسول». كان بارعًا فى تلقى العلوم والثقافة حتى أصبح من علماء عصره. تتلمذ «أثَناسيوس» على يد القديس أنبا «أنطونيوس» أب الرهبان، ويتضح هذا فى كتاباته عندما قال: «لقد رأيتُ أنطونيوس مرارًا، وتعلمت منه لأننى لازمته زمنًا طويلًا…»؛ فقد قضّى «أثَناسيوس» قرابة الثلاثة أعوام مع أنبا «أنطونيوس» متتلمذًا له. ثم عاد ليصبح سكرتيرًا وشماسًا خاصًّا للبابا «ألكسندروس» بابا الإسكندرية آنذاك. ظهر نبوغ «أثَناسيوس» فى سن صغيرة عندما ألف كتابين قبل أن يتخطى الواحدة والعشرين، وهما: «رسالة إلى الوثنيِّين»، و«وَحدانية الله».
حرمان آريوس
وفى ذلك الوقت، انتشرت تعاليم غير سليمة كان مصدرها قَس ليبيّ ـ فالكنيسة الليبية كانت تتبع الكرسيّ المَرقسيّ ـ جاء إلى الإسكندرية يُدعى «آريوس»، حاول البابا «ألكسندروس» نصحه للعدول عن أفكاره وتعاليمه الخاطئة فى مجمع عُقد فى ٣١٩م. إلا أنه لم يقبل التوقف عن تعاليمه، فما كان من البطريرك إلا أن عقد مجمعًا آخر حرم فيه «آريوس» بحضور جميع أساقفة مِصر وليبيا فى ٣٢١م.
مجمع نيقية ٣٢٥م
وجد «آريوس» أنه قد حُرم فى الإسكندرية، فبدأ فى بث أفكاره خارج مِصر. وحدثت بلبلة عظيمة آنذاك، حتى وصل الخبر إلى الإمبراطور «قسطنطنين الكبير» الذى قرر عقد مجمع مسكونىّ فى نيقية عام ٣٢٥م، شارك فيه أساقفة من جميع كنائس العالم. وحضر المجمع البابا «ألكسندروس» يرافقه شماسه «أثَناسيوس»، ليصير هذا الشاب اليافع بطل مجمع نيقية. فقد جادل «آريوس» موضحًا خطأ تعليمه واعتقاده. وجذب الشاب «أثَناسيوس» انتباه الجميع، وكان موضع إعجابهم بمناقشاته، حتى قيل عنه: «كان أثَناسيوس فى نيقية أعظم المرافقين للأساقفة!» وأيضًا قيل إن قسطنطين الملك قال له: «أنت بطل كنيسة الله». وانتهى مجمع نيقية بقرار حرمان «آريوس» ليبدأ اضطهاد من الآريوسيّين ـ التابعين لتعليم آريوس ـ ضد «أثَناسيوس» عاناه هذا البطل معظم أيام حياته، وقيل عن هذا: «إن فصاحة أثناسيوس فى المجمع النيقاويّ قد جرّت عليه كلَّ البلايا التى صادفته فى حياته». ولٰكنْ، يتضاءل التعب والمعاناة أمام إيمان الإنسان المِصرى العميق؛ فشجاعة «أثَناسيوس» النادرة وثباته صارتا مَِحط أنظار العالم بأسره.
«أثَناسيوس» البطريرك
فى ٣٢٦م، تنيح البطريرك «ألكسندروس» بعد أن أوصى الأساقفة بإقامة «أثَناسيوس» خلفًا له. ومع محاولات هربه من هذه الكرامة إلا أن الشعب أصر على اختياره ورُسم بطريركًا فى العام نفسه؛ وكان حينئذ فى الثامنة والعشرين. وقد حاول الآريوسيُّون منع رسامته إلا أنهم لم ينجحوا.
حياة وأتعاب وبطولات
تكْشف لنا حياة البابا «أثَناسيوس» عن مدى صلابته وقوته وصموده من أجل الدفاع عن الحق والإيمان المستقيم أمام الجميع، فلم يتنازل أو يضعُف أمام الأباطرة أو النفى أو الأتعاب، وقد بدأها حين تحايل «آريوس» حتى يُصْدر الإمبراطور «قسطنطين» عفوًا عنه بواسطة شقيقه الإمبراطور الذى استدعى «آريوس» من منفاه ليخدع الإمبراطور مقدِّمًا إليه إيمانًا ملتويًا غير صحيح، فرضِيَ به. ثم أُرسل إلى مِصر بتوصية الإمبراطور وصورة إيمانه. ولٰكنّ البابا «أثناسيوس» لم ينخدع بموقف «آريوس» ورفَض عودته، وأرسل إلى «قسطنطين» قائلًا إنه لا يمكنه أن يقبل فى كنيسته رؤوس الهراطقة المحرومين من المجمع النيقاويّ. وقد ثار الإمبراطور «قسطنطين»، ووجدها الآريوسيُّون فرصة للتدخل؛ فأخذوا يَنسبون إلى البابا «أثناسيوس» التهم والأخطاء الشنيعة. فاستدعى «قسطنطين» البابا الذى نجح فى إقناع الإمبراطور بسلامة موقفه وبراءته من التهم المنسوبة إليه، وكشَف له مخادعة «آريوس».
مجمع صُوْر
وفى ٣٣٤/٣٣٥م بمدينة صُوْر، نجح الآريوسيُّون فى عقد مجمع لمحاكمة «أثَناسيوس» بعد اتهامه بالقتل والزنا!! ولكنّ الله أظهر براءته، واستاء الأساقفة الأرثوذكسيُّون وخرجوا قبل انتهاء المجمع؛ فخلا الجو للآريوسيِّين الذين أسرعوا باغتنام الفرصة وحكموا بنفى البابا. وكان هذا هو النفى الأول الذى تعرض له البابا «أثَناسيوس» بطل كرسىّ الإسكندرية. حزِن الشعب جدًّا بسبب إبعاد راعيه الأمين، وطلبوا إلى أنبا «أنطونيوس» التدخل لدى الملك، فأرسل إليه برسالة، لٰكنها لم تغير من موقفه نحو البابا. وحين حاول «آريوس» العودة إلى مِصر مات ميتة بشعة، وعندما علِم «قسطنطين» بموته أراد أن يعيد البابا «أثَناسيوس» إلى كرسيّه، ولكنه مات بعد أن أوصى ابنه «قسطنطين الثانى» الذى حكم الغرب بعودته، وبذلك عاد البابا فى ٣٣٧م بأمر منه، ولم يستطِع أخوه الآريوسىّ «قسطنطينوس» حاكم الشرق بالوقوف ضد أخيه.
النفى الثانى
لم تتوقف مؤامرات الآريوسيِّين، فقد نجحوا فى إقناع الإمبراطور «قسطنطينوس» بعزل البابا «أثَناسيوس» مرة ثانية؛ بخاصة بعد موت «قسطنطين الثانى» إمبراطور الغرب، وعينوا مكانه «غريغوريوس الكبادوكىّ» الذى حضر بالقوة إلى الكنيسة لقتل البابا «أثَناسيوس» الذى حُمل من المكان وجرى تهريبه. واستُخدم العنف والوحشية ضد المَسيحيِّين المِصريِّين لرفضهم التخلى عن إيمانهم. وذهب البابا إلى روما فى ٣٣٩م، وعاد ٣٤٦م وقد استُقبل استقبالًا قيل فيه: «إن القوم توافدوا من أنحاء المدينة على اختلاف نزعاتهم للقائه.. وكان ازدحامهم أشبه بالنِّيل فى عز فيضانه».
النفى الثالث
وفى ٣٥٦م، نفى «قُسطَنطِيوس الثانى» البابا «أثَناسيوس» مرة أخرى، وعيّن آخر يُسمى «جُورجيوس الكَبادُوكىّ». عندئذ ذهب البابا إلى الصحراء ليُقضّى بين الرهبان عدة سنوات ثم عاد إلى كرسيّه فى ٣٦٢م، بعد موت كل من الإمبراطور والأسقف الدخيل، بأمر من الإمبراطور «چوليان».
النفى الرابع
ولم تمر سوى أشهر قليلة حتى قام الإمبراطور «چوليان» المرتد إلى الوثنية بنفى البابا «أثَناسيوس» المرة الرابعة ليعود فى ٣٦٤م مع ارتقاء «چوفيان» سُدَّة الحكم.
النفى الخامس
تولى حكم البلاد الإمبراطور «ڤالنس» الذى أمر بنفى البابا «أثَناسيوس» مرة خامسة فى ٣٦٥م. وثار الشعب ثورة عارمة حتى أمر الإمبراطور بعودة البابا فى ٣٦٦م، وكان الشعب فى سعادة لا توصف بعودة راعيهم الأمين.
رعايته للكنيسة فى مِصر
وعلى ما قاساه البابا «أثَناسيوس» طوال حياته من الآريوسيِّين، إلا أنه اهتم برعاية الكنيسة المِصرية. ففى بداية خدمته، زار كنائس الوجه القبلىّ حتى وصل إلى أُسوان حيث التقى أنبا «باخوميوس» ورهبانه. وهو مؤسس كنيسة الحبشة ورسم لها «فرومِنتوس» أسقفًا، وبذلك صارت الكنيسة المِصرية ترعى الكنيسة الإثيوبية قرونًا طويلة حتى انفصلت رئاسة الكنيستين.
وتعد المدة من ٣٤٦م حتى ٣٥٦م من أزهى أزمنة الكنيسة المصرية، فقد كان عصر سلام وازدهار روحىّ فى البلاد. وبعد عودته من النفى الثالث فى ٣٦٢م، قام البابا بعمل مجمع بالإسكندرية لمناقشة المشكلات التى تتعرض لها الكنيسة فى مِصر.
وكانت السنوات الأخيرة من رئاسة البابا «أثَناسيوس» بعد عودته من النفى الخامس فترة سلام، اهتم فيها برعاية الشعب والكنيسة المِصرية ليتنيَّح بسلام فى مايو ٣٧٣م.
خاتمة
إن حياة البابا «أثَناسيوس» هى أيقونة مضيئة لحياة امتلأت من الإيمان العميق والصبر والعمل لأجل الحفاظ على الإيمان. فهو الذى وضع قانون الإيمان الذى يُتلى فى العالم كله، وترك تراثًا من الكتابات يصل إلى ثلاث وثمانين رسالة. وقد ذكر عنه أحد المؤرخين: أثَناسيوس هو المحور الذى كانت تدور حوله الكنيسة واللاهوت فى العصر النيقاويّىّ.. وقد لُقب بالكبير عن جدارة تأكدت بالاضطهادات والآلام التى تحمّلها سنين طويلة فى مقاومة أخطاء شنيعة تحصنت أحيانًا بسلطان الإمبراطور… وما التعبير المشهور «أثَناسيوس وحده صار ضد العالم وصار العالم كله ضده» إلا تعبيرا جيدا عن جرأته الفريدة الحرة وأمانته التى لا تهتز من جهة ما يؤمن به.. كان أثَناسيوس بمفرده فى وقت من الأوقات ـ وحده ـ حاملًا للحق، ولذلك سُمّى فيما بعد «أبو الأرثوذكسية».
هذا هو «أثَناسيوس» البطل المِصرىّ بابا الإسكندرية الذى شهِد له العالم، الذى أُبعد عن كرسيّه خمس مرات ليعيش فى منفاه ما يقرب من العشرين عامًا!! ولكنْ، لم تستطِع المعاناة والآلام أن تُثنيه عن إيمانه الثابت. وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى..!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ