حين نتحدث عن الشعوب، أشعر أننى أتحدث عن أيقونات رُسمت بيد أبنائها عبر تاريخ عاشته الأمم. وأجمل ما فى أيقونات الشعوب هو أنها أيقونات متحركة تأخذك من عمق التاريخ السحيق إلى اللحظة الحاضرة التى تعيشها.
وعن مِصر الحُلوة أتحدث، فأقف أمام شعب صنع التاريخ وأضفى لمساته على كل شعوب العالم. فمِصر هى أقدم دول العالم، وعلى مدار آلاف السنين ومِصر كائنة بأرضها وشعبها وحكوماتها، لم تتوقف قبل قديم الزمان عن الحياة والوجود، تبهر العلماء والمفكرين والباحثين عن سرها القابع فى عظمة تاريخها.
وقد قال عنها شمس الدين الدِمَشقى:
إِذا البلادُ افتخـرَت لم تزَل
مِصرُ لها عزٌ وتفضـــــيلُ
وكيف لا تَفخَرُ مِصرُ وفى
أرجائِها السلطانُ والنيلُ
وقال عنها أمير الشعراء «أحمد شوقى»:
لم تنزِل الشمسُ ميزاناً ولا صعِدَتْ
فى مُلكِها الضخمِ عرشاً مثلَ وادينا
وتجلت كلمات شاعر النيل «حافظ إبراهيم» فى قصيدته «مِصرُ تتحدثُ عن نفسِها»:
وقفَ الخَلقُ ينظرون جميــــــعاً
كيفَ أبنى قواعدَ المجدِ وحدى
وبناةُ الأهرامِ فى سالفِ الدهرِ
كَفَونِى الكــــــلامَ عندَ التحدِّى
أنا تاجُ العلاءِ فى مفرَقِ الشرقِ
ودُرّاتُــــه فَرائـــــــدُ عِقـــــــــدى
إن مجدى فى الأُولَياتِ عريقٌ
مَن له مثلُ أُولَياتى ومجــــــدى؟
ثم يقول:
كَم بغَت دولةٌ علىّ وجارَت
ثم زالَت وتلكَ عُقبَى التعدِّى
إننى حرةٌ كسَرتُ قيـــــودى
رغم أنف العِدا وقطعتُ قَيد
أمّا المِصريُّون فهم أبناء هذا البلد العريق وشعبه الذى دائماً أراد الحياة، فكانت له:
إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلابد أن يستجيبَ القدرُ
والشعب المِصرى يحمل داخله سمات ظلت ترافقه طَوال رحلة تاريخه، وهنا أتحدث عن بعض صفات هذا الشعب العظيم، فهو شعب: لا يتنازل عن هُويته وإيمانه، ولا يتوقف عن كفاحه وجهاده.
لا يتنازل عن هُويته وإيمانه
عبر آلاف السنين، مرت بمصر أزمنة قوة انفتحت فيها على العالم كله، وفترات ضعف عانت من تسلط عليها. إلا أنها فى كلتا الحالتين لم تفقد هُويتها. فقد تعرضت مِصر لكثير من أزمنة الاستعمار على مدار تاريخها، إلا أنها لم تُفقِد المِصرى شخصيته بالرغم من المستعمرين ومحاولاتهم الكثيرة للتقرب إلى أهلها ولم ينجحوا، ولم يتبقَّ لهم أثر بعد خروجهم من البلاد. وعلى الجانب الآخر، فى عصور القوة، وعلى سبيل المثال فى وقت الإمبراطورية المصرية القديمة، حين بلغت حضارة البلاد أَوْجها، وانفتحت مِصر على البلاد من حولها، وتعددت وتنوعت علاقات المِصريين بشعوب هذه البلاد، لم يفقد المِصريُّون هُويتهم وشخصيتهم المصرية. فكل رقى وتقدم وعلم كان سبيلاً لإثراء المِصرى لا ليغيِّر من كينونته.
والإيمان لدى المِصرى عقيدة ثابتة لا تهتز، ومهما اختلف نوع هذا الإيمان أو اتجاهه فهو مبدأ راسخ فى حياته.
وهذا أمر لم يتغير على مدى التاريخ ومع تنوع عقائد المِصريين. فقديماً حين غزا «قَمبيز» الفارسى مِصر فى 525 ق. م، وهزم الملك «بَسماتيك» منتهكاً حرمة الديانة المِصرية آنذاك، لم يَلقَ سوى كل رفض وبَغضاء من المِصريين.
كذلك قدَّمنا فى مقالات سابقة محاولات الرومان للتأثير فى أهل مِصر حين آمنوا بالمسيحية لتغيير اعتقاداتهم وإيمانهم، ولم يفلحوا. فطبيعة الإنسان المِصرى لا تتنازل عما يؤمن به، وإن كانت التضحية هى بالحياة! فأعداد الشهداء فى مِصر فاقت أعداد شهداء جميع الوِلايات الخاضعة للإمبراطورية المِصرية فى ذلك الزمان. وقد أدرك بعض المستعمرين هذه الطبيعة المميزة للمِصريين؛ فقد قدَّمت إلينا بعض كتابات المؤرخين إحدى الوثائق التى تُنسب إلى «نابُليون بونابرت» وفيها يوصى القائد «كليبر» قائلاً: «إذا أردتَ أن تحكم مِصر طويلاً، فعليك باحترام مشاعر الناس الدينية، واحترام حرمات منازلهم».
لا يتوقف عن الكفاح والجهاد
لم يتوقف الشعب المِصرى على مدى صفحات تاريخه عن كتابة صور مشرّفة خَطتها أيدى المِصريين على مدى رحلة عطاء فى السلم والحرب. فتارة تجدهم يَهبّون لمقاومة مستعمر يَبغى احتلال أرضهم، وتارة أخرى تجدهم يداً تكافح فى سبيل بناء البلاد. وسنضع بعض النماذج المشرّفة لكفاح هذا الشعب العظيم.
الهكسوس
بالرغم من أن الهكسوس قاموا باحتلال مِصر قرابة مائة عام، لكنهم لم ينعموا فيها بالهدوء أو الراحة. فقد قوبِلوا بكثير من الثوْرات والمقاومة من الشعب المِصرى. ولم تستطِع محاولاتهم أن تقضى على الروح الوطنية فى البلاد بل كانت تتزايد وتقوى مع مرور الأيام حتى تسنَّى لهم أن يطردوهم طرداً من البلاد.
الفرس
ولم يع الفرس الدرس من التاريخ المِصرى، فقاموا بغزو مِصر عام 525 ق. م، ورفض الشعب المِصرى الحر أن يحيا تحت وَطأة الاستعمار رغماً عن الملك الفارسى الذى حاول كسب ود المِصريين. ولم يتوقفوا عن الثوْرات حتى استطاع الملك «أميرتى» مهاجمة الفرس وطردهم خارج حدود البلاد. فقام بتكوين جيش من المِصريين القاطنين بوسَط دلتا مصر ليقضى به على الفرس فى جنوب منف، ثم قام بالقضاء على جُباة الضرائب التابعين للدولة الفارسية فى شمال أسوان وفِيْلة لينتهى الاحتلال الفارسى الأول فى مِصر ويُعلن نفسه فَُِرعَونا للبلاد. إلا أن الفرس ظلوا يتحينون الفرصة للعودة إلى مِصر حتى تمكنوا منها. ولكن لم يدُم حكمهم أكثر من سنوات قليلة حتى دخل
الإسكندر الأكبر مِصر. ثم عادوا لاحتلال البلاد فى 618م مدة عشر سنوات وسط رفض المصريين وسَُخَطهم وثوْراتهم، حتى تمكن «هرقل» من الانتصار عليهم فى معركة «نينوى» عام 627م ليغادروا البلاد.
البطالمة
وفى مدة حكمهم، لم تتوقف الثورات ضدهم. وقد حاولوا أن ينصهروا بثقافاتهم ودياناتهم مع المِصرى، إلا أنهم لم يستطيعوا. فلم يكُن المِصريون ينظرون إليهم إلا كمستعمرين للبلاد، وكانت الحرية لا تفارق مخيلاتهم، فقاموا بعدة ثورات ضدهم. ومع محاولات إخماد صوت المِصريين، إلا أن صياح الحرية ظل يتردد ويعلو بين الحين والآخر معلناً كفاح الشعب الذى لا يتوقف.
التتار
ويأتى التتار حاملين تهديداتهم إلى الشعب المِصرى محاولين زرع الخوف فيهم لتتصدى لهم إرادة شعب وعزيمة أمة تريد الحياة، ويذوب شعبها محبة فى بلاده، فهبّ المِصريُّون دون خوف أو جزَع من تهديدات العدو لمقاومته.
أرسل السلطان «قُطُز» رسله إلى أقطار البلاد ينادون بالتصدى للعدُو مدركاً طبيعة المِصرى الذى لا يهاب العدُو ليُسرع الجميع للدفاع عن البلاد حتى تحقق النصر لمِصر.
الحملة الفرنسية
وتمضى سنوات يرسُِم فيها الشعب ملحمة كفاحه، حتى نصل عام 1798م مع مجىء الحملة الفرنسية إلى مِصر بقيادة «نابُليون بونابرت»، لتستمر ثلاث سنوات تنتهى بعدها بفشل ذريع وعودة القوات الفرنسية إلى بلادها. وقد لعِب الشعب المِصرى وكفاحه دوراً بارزاً فى تلك المدة حتى عادت الحملة تجُر أذيال الخَيبة والفشل، فلا ننسى دور حاكم الإسكندرية السيد «مُحمد كُرَيِّم»، الذى ذُكر فى الموسوعة العربية العالمية بأنه أحد المناضلين المِصريِّين، أنه قام بقيادة المقاومة الشعبية المِصرية ضد الفرنسيِّين حال وصولهم إلى الإسكندرية رافضاً تسليمها. ثم اعتُقل وأُطلق سراحه ليعود منضماً إلى صفوف الشعب الرافض للاستعمار، وقائداً لحركة واسعة فى سبيل المقاومة السلمية حين حاول «كليبر» احتلال دمنهور.
حملة فريزر
فى 1807م، وبعد انقضاء عامين على حكم «مُحمد على»، أرسلت إنجلترا حملتها الأولى على مِصر بقيادة الچنرال «فريزر» ليتصدى لها أهالى رشيد بقيادة محافظها «على بك السلانكى». تقدم الإنجليز ولم يجدوا أى مقاومة من الأهالى، حتى اعتقدوا أن المدينة تستسلم كما حدث فى الإسكندرية. وما أن دخلوا المدينة، يملأهم شعور الأمن، وبدأوا فى البحث عن أماكن يستريحون فيها، حتى انهالت عليهم النيران من الأهالى وأفراد حامية رشيد من نوافذ المنازل وأسطُحها، فقُتل كثير من جنود وضباط الحملة، وهرب الأحياء. وبلغت خسائر الإنجليز 185 قتيلاً، و282 جريحاً، و120 أسيراً لدى حامية رشيد، ليُحبِط أهالى رشيد محاولة احتلال مِصر.
ولا ننسى مقاومة الشعب المِصرى وأبطاله، مثل: «مصطفى كامل»، و«سعد زغلول»، ضد الاحتلال الإنجليزى، حتى نالت البلاد حريتها وجَلَت قواتُ المستعمر عن البلاد.
العُدوان الثلاثى
وما أن نالت البلاد حريتها حتى قامت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بشن الحرب على مِصر فى 1956م، بعد قرار تأميم قناة السويس. بدأت الحرب بالهجوم الإسرائيلى على سيناء، تبِعه إنذار بوقف الحرب من كل بريطانيا وفرنسا وتراجع الجيشين المِصرى والإسرائيلى إلى مسافة 10 كيلومترات عن ضفتى قناة السويس. لكنّ المِصريين أدركوا أن فى هذا فقدان للسيطرة على قناة السويس، ما جعلهم يرفُِضون. نزلت القوات البريطانية والفرنسية فى بورسعيد ومنطقة قناة السويس ليقف الشعب المِصرى فى كفاح لا يتوقف، ويفشل العدوان الثلاثى
على مِصر. إن الشعب المِصرى شعب عريق، بدأ مسيرته قبل فجر التاريخ، ويستمر إلى النهاية فى خَُطواته على الدرب.
وأختم كلماتى عن مِصر وشعبها بكلمات «نابُليون بونابرت»: «فى مِصر قضَّيتُ أجمل السنوات! ففى أوروبا، الغيوم لا تجعلك تفكر فى المشاريع التى تغير التاريخ. أمّا فى مصر، فإن الذى يحكم بإمكانه أن يغير التاريخ».!!
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى