تحدثنا فى المقالة السابقة عن القنوات الصناعية المصرية التى حفرها المِصريون على مر تاريخهم: قنوات «سنوسرت الثالث»، و«سيتى الأول»، و«نخاو الثانى» التى توقف العمل بها بسبب نبوءة إحدى العرافات، ثم استُكملت أيام «دارا/ داريوس الأول». وجاء اهتمام «الإسكندر الأكبر» بمشروع حفر القناة لكنه توقف لموته، وتبِع ذلك حفر قناة «بطليموس الثانى»، ثم قناة «تراجان». ومع الفتح الإسلامى لمِصر، حُفرت قناة «أمير المؤمنين» إلى أن رُدمت فى العصر العباسى. ومع نابُليون والحملة الفرنسية، بدأت دراسات حفر قناة السويس، وأُلغيت الفكرة لحسابات خاطئة إلى أن استؤنفت دراسته مرة أخرى.
■ الدراسة الثانية لحفر قناة السويس
فى عام 1833م، وصل وفد من المهندسين الفرنسيين إلى «مُحمد على» والى مِصر يطلق عليهم «سان سيمون» لدراسة مشروع حفر قناة السويس. وكان «مُحمد على» باشا قد استقبلهم بحفاوة وترحاب، وقدم إليهم ما احتاجوه من معونة. ويذكر بعض المؤرخين أن الفرنسيين عرضوا مشروع شق القناة عليه، إلا أنه رفضه بالطريقة التى قُدم بها، فقد رأى والى مِصر ضرورة إشراف الحكومة المِصرية على تنفيذه وتمويله حتى تصبح القناة مشروعاً مصرياً خالصاً يعود بالفائدة على البلاد. كذلك وضع شرطاً آخر وهو ضمان الدول الكبرى لحَيدة مِصر، فقد أراد «مُحمد على» إبعاد أى تدخلات أجنبية فى مِصر. ثم قام بعمل مشروع القناطر الخيرية آنذاك.
وفى عام 1835م، رحل مهندسون فرنسيون كثيرون نتيجة تفشى مرض الطاعون الذى تسبب فى قتل عدد كبير، إلا أن «فرديناند ديليسبس»، الذى اختير نائب القنصل الفرنسى فى الإسكندرية فى 1832م، والمهندس الفرنسى «لينان دى بلفون»، ظلا فى مِصر.
ويذكر بعض المؤرخين أن عام 1840م شهِد وضع مشروع شق قناة مستقيمة بين البحرين الأحمر والأبيض، قام به المهندس الفرنسى «دى بلفون» الذى كان يعمل مهندساً بالحكومة المِصرية، فقد ناقش فى تقريره الفارق بين منسوبَى مياه البحر الأحمر والبحر الأبيض، مؤكداً عدم ضرره، بل على النقيض، فإن هذا الفارق سوف يساعد على حفر القناة، وقد قدم نهر النيل نموذجاً لفكرته، إذ يتدفق ماؤه من الجنوب إلى الشمال ليصب فى البحر الأبيض.
فى ذاك الوقت، لم يكُن حُلم حفر القناة قد توقف فى أذهان علماء «سان سيمون»، ما جعلهم يقومون بإنشاء جمعية لدراسة المشروع مرة أخرى لمعرفة إمكانية تنفيذه، وكان ذلك فى عام 1846م. وهو الأمر الذى أسفر عنه ظهور دراسة جديدة فى عام 1847م، أكد فيها المهندس الفرنسى «بولان تالابو» خطأ الحسابات السابقة، فى وجود فرق بين مُستوَيَى منسوبَى مياه البحرين الأحمر والأبيض، ما ترتب عليه أنه قدَّم تقريراً جديداً مبنياً على التقرير الذى قدِّم من قبل المهندس «دى بلفون»، مؤكداً فيه إمكانية حفر القناة دون إحداث أضرار وطغيان تسببهما المياه على أرض الدلتا. لكن الدراسة لم يُقدر لها الاستجابة بسبب مرض «مُحمد على»، ومعارضة بريطانيا لها.
ثم تجددت محاولات استكمال تحقيق حلم حفر قناة تربِط البحر الأحمر بالبحر الأبيض التى رفضته الدراسات السابقة، بعد اغتيال الخديوى «عباس الأول» فى 1854م، وبالتحديد عند اعتلاء «سعيد باشا» سُدة الحكم فى مِصر، مع عودة «فرديناند ديليسبس» للتقرب مرة أخرى، فقد ذكر بعض المؤرخين أن ثمة عَلاقة صداقة وطيدة كانت قد نشأت بينه وبين «سعيد»، امتداداً للعَلاقة الوثيقة بين الأبوين «ماتى ديليسبس» المبعوث الفرنسى لنابُليون بونابرت إلى مِصر فى 1803م وبين واليها «مُحمد على». وقد استطاع «ديليسبس» أن يستخدم أواصر صداقته السابقة بـ«سعيد» ليقنعه بأهمية حفر القناة وفوائده حتى نجح فى جذب اهتمامه إلى المشروع والعمل على تنفيذه.
■ فرمان عقد الامتياز الأول
وفى نوفمبر من عام ١٨٥٤م، استطاع «ديليسبس» أن يحصل على فرمان عقد الامتياز الأول لحفر قناة السويس. وجدير بالذكر أن «سعيد باشا» كان قد استدعى «ديليسبس» فى اجتماع ضم عدداً من قناصل الدول، أعلن فيه موافقته على مشروع حفر قناة السويس ذاكراً أن السيد «فرديناند ديليسبس» قد وجه الانتباه إلى أهميتها، وفائدتها التى سوف تعود على مِصر بخير جزيل جراء توصيل البحرين الأحمر بالأبيض، وأن تنفيذ هذا المشروع سوف يكون من خلال شركة مكونة من أصحاب رؤوس الأموال، حيث يقوم السيد «ديليسبس» بتأسيسها وإدارتها. وأصدر «سعيد» فى هذا الصدد فرماناً بإبرام عقد الامتياز الأول للقناة، الذى كان مكوناً من اثنَى عشَر بنداً، أهمها: يقوم السيد «فرديناند ديليسبس» بتأسيس شركة- تُسمى «الشركة العامة لقناة السويس»- وأن يقوم هو بإدارتها، وأن تكون مهمة الشركة القيام بشق برزخ السويس، تقوم فيها باستغلال طريق صالح للملاحة الكبرى، كذلك تكون الشركة هى المسؤول عن إنشاء مدخلين كافيَين وإعدادهما- أحدهما على البحر الأبيض والآخر على البحر الأحمر- وبناء مَرفأ أو مَرفأين. كما ذكر الفرمان أن مدير الشركة يعيَّن من قِبل الحكومة المصرية. وأن الشركة تُمنح امتياز إدارة القناة مدة تبلغ تسعة وتسعين عاماً تبدأ من تاريخ فتح القناة للملاحة، على أن تصبح الحكومة المِصرية (بعد انتهاء الامتياز) هى المالك الوحيد للشركة وتوابعها، بعد تعويض الشركة عن المنشآت التى أوجدتها لخدمة الملاحة فى القناة. وفى خلال تلك المدة، تكون الشركة خاضعة للقوانين المِصرية. وتحصل الحكومة المِصرية على 15% من صافى الأرباح. وتتحمل الشركة وحدها نفقات المشروع نظير منحها ودون مقابل ما يلزمها من أراضٍ غير مملوكة للأفراد. كذلك جرى منح الشركة حق استخراج جميع المواد اللازمة لأعمال القناة من المناجم والمحاجر العامة، مع إعفائها من الرسوم التى تُفرض على الآلات والمواد المستوردة من الخارج. مع ملاحظة أن أمر تحديد مساحة الأراضى هو متروك للمهندس الفرنسى «لينان».
وبناء على صدور هذا الفرمان قام «ديليسبس» مع كبيرى مهندسى الحكومة المصرية «لينان دى بلفون» و«موجل» بزيارة منطقة برزخ السويس لبيان جدوى حفر القناة، فى يناير من عام 1855م. وحينئذ جاء تقريرهما مثبِتاً لإمكانية تنفيذ المشروع وحفر القناة. ولكن «ديليسبس» قام بتأليف لجنة هندسية دولية لتزور المنطقة بهدف دراسة تقرير المهندسَين، وانتهت دراسة اللجنة بتقرير يؤكد إمكانية الحفر، وأن البحرين متساويان فى المنسوب، وأنه لا خوف من طمى النيل، حيث إن شاطئ بورسعيد رملى، وكان ذلك مع نهاية عام 1855م.
وكانت دراسة الحفر التجريبية قد أعلنت أن 2.613 مليون قدم مكعب من التراب يجب أن تزال، بتكلفة تُقدر بـ200 مليون فرنك، ما أدى إلى تعرض الشركة لمشكلات فى الحصول على التمويل اللازم للمشروع، وجعل «سعيد باشا» يقوم بشراء 44% من الشركة لاستمرار تشغيلها.
■ فرمان الامتياز الثانى
ومع بدء عام 1856م، صدر فرمان يمنح الشركة امتيازاً ثانياً عُدلت فيه بعض أحكام فرمان الامتياز الأول. وطالب الفرمان الثانى: بالتزام الشركة بجميع أشغال البناء وأعماله اللازمة لإنشاء قناة ملاحة بحرية من السويس على البحر الأحمر، وبورسعيد على البحر الأبيض، وقناة للرى صالحة للملاحة النهرية تصل النهر بالقناة البحرية، لها فرعان للرى والشرب، وبناء مَرسى للسفن عند مدخل القناة البحرية فى كل من بورسعيد والسويس، وأن يكون حجم العمالة المِصرية فى أعمال الحفر أربعة أخماس العمالة الكلية. كذلك حصلت الشركة على حق طلب مد الامتياز إلى مدة 99 عاماً جديدة، وإلى مُدد متعددة، مع تمليكها مياه النيل، ومياه الترعة العذبة التى تخرج من القاهرة لتغذى منطقة القناة، ويمكنها بيعه للمِصريين المنتفعين بها فى أعمال الرى.
وفى المدة من الخامس من نوفمبر إلى الثلاثين منه عام 1858م، جرى الاكتتاب فى أسهم شركة قناة السويس، ليتم تأسيسها وتكوين مجلس إدارتها.
■ البَدء فى حفر القناة
تعرض مشروع القناة لبعض المحاولات من البريطانيين والأتراك لتعطيل البَدء فيه، وذلك لشعورهم بالقلق من الضرر بمصالحهم إذا تحقق. حتى تدخل «نابُليون الثالث» وبدأ حفر القناة الفعلى مع الخامس والعشرين من إبريل عام 1859م عند نقطة «بورسعيد»، وكانت الحكومة المِصرية قد أعدت قرابة سبعة وعشرين ألف عامل دون أجر لهذا العمل! واستمر العمل حتى انتهاء المرحلة الأولى من حفر القناة فى عام 1862م.
وفى عام 1863م، مع تولى «إسماعيل» حكم مِصر، توقف العمل مرة أخرى فى المشروع ما جعل «ديليسبس» يلجأ مرة ثانية إلى «نابُليون الثالث» لتؤلَّف لجنة دُولية فى عام 1864م لحل المشكلات التى يتعرض لها المشروع. وبالفعل جرى حلها حتى اكتمل المشروع فى السابع عشر من نوفمبر 1869م، حين أزيل الحاجز عند السويس لتختلط مياه البحرين الأحمر بالأبيض، ويجرى افتتاح قناة السويس للملاحة البحرية أمام العالم. إلا أن هذا العمل ما كان له أن يتم إلا بأيدى المِصريين الذى دفعوا ثمناً فادحاً من دمائهم وحياتهم. و… وعن مِصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى